التحرير نت ينشر ملف جريمة اغتيال الرئيس الحمدي عصر ذلك اليوم وكان الخميس 13يونيو / حزيران 1974 إذاعة صنعاء عاصمة الجمهورية العربية اليمنية "اليمن الشمالي"، والتي يغطي بثها ويسمع بوضوح على مساحة كبيرة من اليمن الطبيعية، وفي دول الجوار فجأة بدأت ببث الأناشيد الحماسية..
الله واكبر يابلادي كبري .. وخذي بناصية المغير ودمري وغيرها... بالإضافة الى مارشات عسكرية ، وبين أغنية وأخرى المذيع معلناً عن بيان هام سيذاع بعد قليل فترقبوه!؟. في ثوان التف الجميع حول جهاز الراديو ، فلم يكن قد ادخل التليفزيون الى الشمال بعد ( اول ارسال في الجنوب 11/9/1964، وفي الشمال 24/9/ 1975)، بعد قليل هذه امتدت لساعات ، وكلما طال الانتظار كلما كثرت التخمينات والتوقعات، ولان الصورة لم تكن واضحة مائة بالمائة، وكون الإذاعة قدمت هذا النوع من الأناشيد الوطنية، والتي يعود اغلبها الى فترتي الخمسينات والستينات مرحلة المد القومي والمواجهة مع القوى الاستعمارية، والتي تهدف عادة الى رفع المعنويات القتالية أو الاستعداد لها ، وحشد الشعب وراء قيادته فاغلب الظن أن الحرب قد اندلعت للمرة الثانية بين شطري اليمن ، وبين من هو مستاء و حزين للقتال بين أبناء الوطن الواحد خاصة وحرب1972 لم تمح بعد آثارها المؤلمة من ذاكرة الوطن، ولان الوضع السياسي في تلك الفترة كان متأزما بما فيه الكفاية وفتيل الحرب جاهزاً للاشتعال في أي لحظة ولأتفه سبب،لأن كل طرف يحتضن ويدعم مادياً ومعنوياً وبلا حدود معارضي الطرف الآخر! البعض اتجه الى الاستماع لراديو عدن عاصمة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية " اليمن الجنوبي" لعل الصورة تتضح، فوجدوا برامجه عادية لتستبد الحيرة والقلق والترقب من جديد، ومع ذلك فقد يكون الجنوب الماركسي النظام والعقيدة التقدمي قد هاجم الشمال الرجعي بحسب الحرب الإعلامية بينهما في تلك الفترة ، ولهذا لا تزال القيادة في عدن تبحث عن سبب مقنع عربياً ومقبول دولياً أساسه إن لم يكن الدعم والمساندة من باق التقدميين فالحياد اقل شي من الدول التي لها مصالح في المنطقة، لأن الحرب هذه المرة اذا توسعت وأخذت البعد الإقليمي ، حتماً ستهدد هذه المصالح خاصة في الخليج النفطي، بينما القيادة في صنعاء لا تزال هي الأخرى تبحث عن سبب قوي وحاسم لحشد التعاطف والتضامن معها ضد هذه الجماعة الخطيرة…الخ!؟
عند الغروب قطع المذيع (عبدالله شمسان) الصمت الذي وصل الى حد التشنج ، معلناً بعد الديباجة الطويلة غروب عهد الرئيس القاضي عبد الرحمن الارياني ومجيء قيادة جديدة برئاسة العقيد إبراهيم الحمدي في انقلاب ابيض على رأس حركة 13 يونيو / حزيران التصحيحية (نص البيان في ملحق الوثائق)(شُكل مجلس القيادة في البداية من سبعة اعضاء الى جانب الحمدي ثم وسع الى تسعة هم:احمد الغشمي- يحي المتوكل- مجاهد ابو شوارب- علي الشيبة- حمود بيدر- علي الضبعي- درهم ابو لحوم- علي ابو لحوم، واضيف لاحقا عبدالعزيزعبدالغني وعبدالله عبدالعالم). الرئيس السابق الشعب اليمني بأكمله يعرفه شكلاً وفكراً وسياسة بعد سبع سنوات عاصفة في الحكم ، بينما رئيس مجلس القيادة الجديد (رئيس الدولة) معروف في العاصمة صنعاء والمدن القريبة منها خاصة الفترة التي تولى فيها منصب نائب رئيس الوزراء للشؤون الداخلية، وتأسيسه لهيئة التعاون الأهلي التطوير التي نفذت العديد من المشاريع بمبادرات ذاتية من المواطنين ، كشق الطرق وبناء السدود والمدارس والمستوصفات الطبية.. ولأن نسبة الأمية مرتفعة فليس الكل يقرا الصحف او المجلات ولاوجود للتليفزيون ، أول سؤال تبادر الى أذهانهم ..كم عمره؟ وكيف يبدو؟ وكيف يتحدث؟ فالقاضي الارياني عندما خلف المشير / عبد الله السلا ل أول رئيس للجمهورية بعد الثورة على النظام الملكي في الشمال عام 1962 في انقلاب ابيض أيضا ، كانا متقاربين في العمر على أبواب العقد الخامس. اليوم التالي وزعت الصحيفتين الرسمية الثورة التي تصدر في صنعاء والجمهورية شبة الرسمية التي تصدر في تعز، وعلى الصفحة الأولى صورة العقيد الحمدي شاب من مواليد 1943 في مدينة قعطبة لواء إب الحدودية بين الشطرين ذات الأهمية في وقت السلم والحرب واللقاءات الوحدوية المهمة حيث احتضنت أهم قمة بين الحمدي وربيّع في 15/2/1977. بعد ان عرفوا شكله باتوا في شوق لسماع صوته.. بعد ثلاثة ايام مساءاً وجه خطابه وبيانه السياسي الأول فلمسوا فيه دفء الصوت والبلاغة في الالقاء لتبدا مقارنة لم تنته بين رجلين احترموا في الاول وقدروا له دوره النضالي الطويل ضد الحكم الامامي الظالم المستبد المتخلف ، ومعاناته في السجون لسنوات ، ويكفي انه أعيد من ساحة الاعدام مرتين وقبل دقائق فقط من طيران رأسة فلقب بالشهيد الحي، واكبروا فيه غزارة علمه وتحمل المسئولية في فترة حرجة للغاية كان رجلها بالفعل ، وعابوا عليه ترك البلد وخيراتها نهباً لفئة اعتبرت نفسها فوق القانون العام وسنت قانونها الخاص مع القوي ضد الضعيف، فكان لابد من عمل عظيم يصلح الخلل الفظيع الذي اصاب المجتمع ، ويهدده بالانهيار ويعيد الثقة للمواطنين البسطاء الطرف الضعيف في معادلة ما قبل الحركة ، لكنهم كانوا في نظر الحمدي الطرف الأقوى لأنهم الغالبية بنظامهم الجمهوري ، وأهداف ثورتهم الستة ويقضي على الفساد والرشوة والمحسوبية، وهو البرنامج الذي اعده الحمدي وقدمه الجيش بأسم مشروع القوات المسلحة للاصلاح المالي والاداري في 5/9/1971، وبعد ثلاثة عشر يوماً عين نائباً لرئيس الوزراء للشؤون الداخلية في الحكومة الجديدة ومغزى التعيين ان يشرف شخصياً على تنفيذ ومتابعة مشروعة التصحيحي الذي اصطدم بعقبات كثيرة (انظر قرار اعادة احياء مشروع التصحيح في الملحق) . يوم 18 يونيو / حزيران 74 ودع الحمدي القاضي الارياني رسمياً في مطار تعز المدينة التي احبها الاثنين والواقعة بين صنعاء وعدن متوجها مع أفراد عائلته الى منفاه الاختياري دمشق، ذهب ومعه العديد من الأسرار لم يسرب أي شئ منها بل أراد أن تحكي مذكراته وتكشف كل الحقائق بعد وفاته ، مثلاً هل صحيح انه قدم استقالته الى القوات المسلحة ليحذو حذوه مكرهين باقي كبار المسئولين وخاصة رجل السعودية القوي الشيخ / عبد الله بن حسين الأحمر رئيس مجلس الشورى ، والذي كانت ممارسات المجلس أحد أسباب التغيير، والذين ضاق القاضي ذرعاً بهم وبتصرفاتهم التي تجاوزت كل الحدود على الاستقالة وفي غياب الرجلين القويين العقيد / محمد الارياني القائد العام للقوات المسلحة الموجود منذ شهور في فرنسا للعلاج والعقيد / حسين المسوري رئيس هيئة الأركان الذي توجه الى الأردن في اليوم السابق للحركة (بعد خمسة ايام صدر قرارا بتعيين الارياني سفيرا لدى بريطانيا والمسوري سفيرا لدى مصر. المسوري كان ضمن الوفد اليمني الذي زار السعودية في17/3/73 برئاسة القاضي عبدالله الحجري رئيس الوزراء وعضوية محمد احمد نعمان نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية، وقيل يومها انه تم تجديد اتفاقية الحدود المرفوضة من الشعب اليمني لعشرين سنة قمرية. اغتيل النعمان في 28 /6/74 في العاصمة اللبنانية بيروت، والحجري في10/4/ 77 في العاصمة البريطانية لندن ) فاسحاً الطريق أمام العقيد الشاب نائب القائد العام ليقصقص أجنحتهم ويوقف عبثهم ، أم ان المعسكر الآخر والمقصود به الشيخ الأحمر وجماعته هم الذين دفعوه الى الاستقالة من خلال صفقة مع الشاب الطموح هي أن تحكم ولا تملك او العكس! قد يكون ذلك صحيحاً الى حد ما وكتكتيك منه وهو العسكري المتمرس الذي تولى الكثير من المناصب الهامة رغم صغر سنه، استعان في البداية بعدد كبير من أركان العهد السابق رغم علامة الاستفهام الكبيرة التي تحاصر تاريخهم بحكم مزاملته لهم، ويوماً بعد يوم سحب الشعب البساط من تحت أقدامهم وعندما أحسوا بالغربة مع الوضع الجديد تلاشوا ، بعضهم بصمت والبعض بضجيج كما حدث في مؤتمر مدينة خمر القريبة من صنعاء ومعقل الشيخ الأحمر الذي عقد في15 فبراير/ شباط75، وحضره عدد كبير من المشائخ والضباط المبعدين من الجيش وقد اعتبروا ان الحمدي غاصبا للسلطة.. الشيخ الأحمر نفسه كان قد رعى في 18/6/74 مؤتمرا لقبائل اليمن عقد في قرية المعْْْمر ناحية همدان إحدى ضواحي صنعاء، ووصف الحركة يومها بأنها جنبت البلاد فتنة عمياء!؟.. كان يعرف صعوبة تغييرهم دفعة واحدة في مجتمع القبيلة هي الاقوى ، والمادة هي الوسيلة لبلوغ الغاية المصالح الشخصية على حساب مصالح الوطن؟. في أول يوم رئاسة وبعد مراجعة سريعة للمواضيع المهمة في أجندته المزدحمة اصدر أمراً عاجلاً بوقف الحملات الإعلامية ضد الجنوب وقيادته مع التأكيد بأن الوحدة ستظل هي الخيار الوحيد للشعب اليمني مهما تباينت الآراء والمواقف، ولأنها هدف عظيم فإنها تحتاج الى تضحيات عظيمة.. فبادله على الفور الرئيس سالم ربيّع علي الشهيربسالمين نفس الرغبة ونفس الشعور مؤسسين لعلاقة قوية بينهما اخذت الطابع الشخصي اكثر من الرسمي. بدا الرجل مهمته الشاقة بجهد جبار يعاونه مجموعة من الوجوه الشابة والمؤهلة أكاديميا في بناء الدولة الحديثة دولة النظام والقانون والمؤسسات ، وهي مهمة صعبة لكنها ليست مستحيلة من قائد جمع في شخصيته القوة والقدوة مضافاً إليها ثقافته وتميزه خلال دراسته المدنية والعسكرية، والأهم الأسرة العريقة التي جاء منها كقاض(خلال فترة عمله القصيرة في سلك القضاء في غياب والده القاضي محمد صالح الحمدي كانت تنتهي احكامه الى الصلح بين المتخاصمين) ان العدل أساس الحكم ، وأساس الحكم مخافة الله ، وان لا يخاف في الحق لومة لائم . امر بتعليق عبارة الله جل جلاله بدلاً من -صورته. - انزل جميع الرتب العسكرية التي وصلت الى التضخم وحامليها الى التخمة للمقدم بما فيها رتبته فأعاد للجندي والصف والضابط الهيبة المفقودة (نص القرار في ملحق الوثائق). منع استخدام السيارات الحكومية والعسكرية -وسيارات المؤسسات العامة والمختلطة للأغراض الشخصية (انظر ملحق الوثائق). زيادة المرتبات مع اربعة مرتبات اضافية تصرف في مناسبات عيدي الفطر والاضحى وذكرى الثورة وذكرى الحركة. البساطة والتواضع حياة وسلوكاً لازماه هو وافراد اسرته حتى اخر ايامه. التنقل بدون حراسة او موكب مع السائق او لوحده بسيارته الفولكسواجن. القيام بزيارات ليلية متنكراً . الزيارات المفاجئة للدوائر الحكومية والأمنية والعسكرية ( اخر زيارة مفاجئة له كانت الى مدينة تعز قبل اغتياله باسابيع قليلة وقيل يومها انه كان قاسيا جدا في توبيخ وانتقاد مسؤولي المحافظة على التسيب وعدم الالتزام الوظيفي .. قائد اللواء الرائد علي عبدالله صالح – المحافظ عبدالسلام الحداد ومدير الامن محسن اليوسفي). حاسب نفسه قبل ان يحاسبة الآخرين ، مطبقاً مبدا من اين لك هذا. صارم على كل من حوله وخاصة أقربائه .. حرصه على المال العام حقق للخزينة العامة فائضاً حيث بلغت الأرصدة الاحتياطية للريال اليمني بالعملة الصعبة (الدولار) بحسب ما ورد في نشرة الصندوق الدولي الفصلية ديسمبر / كانون أول 1977(825) ثمانمائة وخمسة وعشرون مليون دولار وهو رقم عال اذا ما قورن باحتياطي مصر آنذاك الذي قارب (240) مأتيين وأربعين مليون دولار . يلتقي من يرغب بلقائه من المواطنين اسبوعيا في لقاء مفتوح دون حواجز ووفق اجراءات سهلة وعادية جدا. في عهده تم تجريد مجموعة من الضباط من رتبهم العسكرية بتهمة الاساءة الى مسؤولياتهم والتقصير ومنهم الرائد لطف البابلي الغى مسميات الشيخ والسيد وابدلها بالاخ والتي تعني سواسية ابناء الشعب. تقبيل العلم عند المغادرة والارض عند العودة من كل سفرة خارجية. كل خطاب يلقية يأتي بالجديد. بدأ في عهده موسم التشجير في مارس / اذار من كل عام لاعادة الاخضرارالى اليمن السعيد. سلم للمتحف الوطني كل الهدايا العينية التي حصل عليها اثناء زياراته لدول شقيقة وصديقة ،لأنها من وجهة نظرة هدايا من شعب لشعب، والمسؤول ليس إلا وسيطاً، اما المبالغ المالية بملايين الدولارات فتم تحويلها الى خزينة الدولة. - تفرغ حتى نهاية العام 1974 للشأن الداخلي فترسخ الأمن الشامل مع التنمية الشاملة، ولأنه قارئ جيد للتاريخ فقد قرر إعادة بناء سد مأرب عصب الحياة المزدهرة لمملكة سبأ التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة سبأ " لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ " فقصد الشيخ / زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة والذي تعود أصول عائلته الى اليمن والى مدينة مأرب تحديداً، فوافق الرجل على تحمل التكاليف ، فكانت الهدية الثانية من شعب الإمارات لشقيقة شعب اليمن بعد محطة التليفزيون، ولأنه مدرك لحجم الضغوط السعودية وتأثيرها على بلاده، لذا كانت وجهته الخارجية الأولى الى الرياض فالتقى المرحوم الملك فيصل بن عبد العزيز الذي اعجب به وبديناميكيته لكن هذا لم يمنعه من التعليق بقوله " سيتعبنا"؟!. خرج المغتربون اليمنيون في العاصمة الرياض والذين جاؤوا من باق المناطق لاستقباله في استفتاء جماهيري أذهل السعوديين وقوات الأمن التي لم تستطع السيطرة على الوضع ، وقد ذكّر السعوديون ذلك الاستقبال باستقبال العمانيين لولي عهدهم قابوس بالمكانس بداية سبعينيات القرن الماضي ليعود مباشرة ويطيح بابيه وينقل بلاده بعد الانغلاق والتخلف لسنين طويلة الى الثروة والتقدم ، وقد تداول الظرفاء العبارة التالية : يا عماني يا عماني اترك المكنسة لليماني !. |