مهاجل تموز 2

و على الرغم من تشاؤم الريفيين من شهر تموز وإفصاح المهاجل والأمثال عما توارثوه من خبرات وتجارب ، فإن فيه منازل مخصبة ومعالم لها تجربتها الواقعية.
ولكي نتحدث عن تلك المنازل ينبغي أن نوضح مواقيتها أولاً ، الأربعة الأيام الأولى من شهر تموز تلتحق بأربعة أيام هن أواخر حزيران تحت مسمى «جمز».
أما من الخامس منه وحتى اليوم العاشر فترة تسمى «علب» بفتح العين وكسر اللام ومدتها ستة أيام تليها ستة أيام أخرى تحت مسمى «عليبة» فمجموعهما معاً اثنا عشر يوماً.. كما أن هناك اثنى عشر يوماً تالية تعرف باسم «سهيل» وتنتهي فترة سهيل في الثامن والعشرين من تموز ويبقى من الشهر يومان يعرفان باسم «بين»..
ومن فترة العلب قيلت الأمثال المناسبة لها المنبثقة عن أصيل التجربة ،كذلك المهاجل التي تتغنى بوصف السيول ، وكل مايقال في تلك الفترة وغيرها يأتي نابعاً من صميم تجارب سالفة لها أهميتها في حياة الناس ومنافعهم.
فمن الأمثال:
( إذا مطر بالعلب ، جلب أولا زاد جلب) و(إذا جاء العلب وهو يابس سقوه بترابه)
في المثلين اشارة إلى أن فترة العلب من أهم الفترت التي تستدعي عناية المزارعين بالزرع فيقتلعون الحشائش الضارة ، ويحدثون السواقي والأحواض الترابية بين الزروع حتى تسهل عملية اختزان التربة وامتصاصها للمياه حتى تكتفي ويبقى الفاضل في تلك الأحواض والأتلام.
أما المهاجل التي ورد ذكر العلب فيها.. فمنها:
( سيل العلب ينزل يلاعب
بين دخنه والغرب)
(سيل العلب ينزل على جانب
يشل زهر الطنب)
(سيل العلب سيل العليبة
مايخلي شاجبه)
(واجالب الخير واجالبه
والعلب محسود ياجالبه)
واجالب الخير ياجالبه
بالليالي السود ياجالبه)
كما أن العلبيعرف عند الريفيين باسم «باجس»
وهو من الفصحى .. بمعنى سائل يقال في اللغة : بجس بجساً وبجس الماء فجره.
كما يقال : ماء بجيس أي سائل ، وسحائب بجس ، أي هاطلة ، والجمع باجس.
وتتصل فترة العليبة بالعلب ،كما أسلفنا وهي آخر فترة للبذور.
كما أن بعض المجربين ينصحون شربة «السنامكي» في تلك الفترة فهي مفيدة جداً.. ويحدث في تلك الفترة أن يصادف أحد ايامها يوم جمعة وهي مشهورة عند البعض اعتقادياً للتطبيب ، ويقال لها: جمعة عليبة.
كذلك المنزلة التالية المسماة «سهيل» اختصتها التجارب بكثير من الأمثال والحكم والحكايات فمن الحكم التي تجري مجرى الأمثال الموسمية ، قولهم في الحجرية:
(إذا جاك سهيل ، وزرعك مايغمرش العجيل ، ياويلك بالويل)
وهي تجربة يستدل بها على قلة المحصول:
وفي إب يقولون : «سهيل سيل بعد سيل» أما في ريمة فيقولون في سهيل:
(سبولة سهيل تدخل المدياس عزمة) المدياس هو الجرن وعزمة بفتح الأحرف الثلاثة الأولى بمعنى خالية من الحبوب.. وقولهم أيضاً (إذا دخل سهيل ،تقطف الفرسكة بالليل) دليل على نضوج اثمار فاكهة الفرسك ، ففي تلك الأيام يستطيع المرء جني الثمار حتى في الظلام فكلها ناضجة ولاتحتاج إلى تنقية.. ولم تنس الهجلة أن تشير إلى سهيل:
(واجالب الخير ياجالبه
سهيل مطره ليل ياجالبه)
وقد جرت مجرى الأمثال أو الحكم المجربة لانفراد فترة سهيل بهطول الأمطار ليلاً ـ أما عن الحكايات التي تحكى عند ذكر سهيل ولازالت الذاكرة الشعبية تسردها: يحكي العارفون أن رجلاً كان اسمه «سهيل» مر باهالي قرية «مجدبة» تعاني من الجفاف فسألوه عن اسمه فقال: سهيل ، وبدافع الجهل أو على سبيل السخرية بالرجل أوثقوه وشدوه إلى جذع شجرة وقالوا له: مادمت سهيل أين المطر؟ نشتي مطر ، وأروه ضمور الزرع وجفافه ، فحاول اقناعهم بكل الطرق ، وأن المطر ليس بيده فلم يقتنعوا بل إن بعضهم لكمه عدة لكمات ، فلما يئس منهم ومن اقناعهم وشعر بضره دعا الله تعالى بقوله: (يارب بحق ما آمنوا بي واشركوا بك اسقهم الغيث امطر لهم) وماهي إلا ساعة زمنية حتى تشكلت السحب الممطرة وزمجرت الرعود وهطل المطر بغزارة شديدة مصحوباً بعواصف وبردٍ كبير احدث اضراراً بالغة في المزروعات فلجأوا إلى سهيل الذي لايزال موثوقاً يستغيثون به ويصيحون : خفف ياسهيل فيقول( من ساع مداعتي وأكبر) ، يريد من الله أن ينزل عليهم برداً يكون حجم حباته بحجم حبة مداعته التي تختزن الماء ، بل وأكبر من ذلك.
ولايزال المعمرون يسردون هذه الحكاية لمن يشعرون بالضيق والكرب حيال الجفاف لحثهم على عدم الاشراك بالله ، لان الشرك ظلم عظيم.
وحكاية أخرى اجتماعية الغرض ولكنها ترتبط ارتباط الإنسان بالأرض.
يحكى أن امرأة تنافس على الزواج منها رجلان ، مهنة أحدهما حداد والآخر مزين «حلاق» فاصطلحا على ترك الأمر والاختيار للمرأة واتفقا على الذهاب معاً ، فلبسا أحسن ماعندهما من الثياب وتجملا بالكحل والمشاقر ، ثم ذهبا ، ولما عرفت المرأة سبب مجيئهما طلبت من ولي أمرها أن يمهلها في البت في الأمر بعض الوقت ريثما تفكر.. فأرسلت سراً إلى رجل آخر مهنته «مزارع وبتول» كان قلبها يميل إليه فترك الرجل ثوريه في المزرعة واقبل مسرعاً ليستوضح الأمر.
وبما أنه أتى من العمل فقد كانت آثار الغبار والعرق بادية على مظهرة بعكس الرجلين.
ودخل على الجماعة في الوقت الذي بدأ فيه كل من الرجلين بتعديد مناقبه ومفاخره فكان مما قاله الحداد: أنا بحقي الزبرة«1» والكير أقدر أعمل لفلوسي بير.. وقال المزين أنا بحقي الموس والشنظريف«2» ، اقدر أعمل لفلوسي كريف«3» ، فتنفس البتول المزارع وقال: وأنا معي مهير وسعادي«4» ، شبتل بهم كل يوم بوادي ، ومرجعكم كلكم إلى مرادي.
فرد عليه المزين : مختلفناش على هذا الخبر ، لكن معك فصيرة«5» تذكر مابين سهيل والأول ، ثمان أو وعدين«6» أو شهير إن طول فارتبك البتول ولم يدر بماذا يجيب على المزين.
الذي فاجأه بذكر تلك الفترة التموزية وهي فعلاً فترة حرجة إذا مرت على جفاف ، لأن الزرع في تلك الفترة يبلغ عنفوانه ويبدأ في تكوين واخراج السنابل والاحجان ، ولذلك تكون حاجته إلى الري ماسة ، كما يؤكد ذلك هذا المثل الشعبي «مطرة اليوم ليوم» معناه أن الزرع في تلك المرحلة يحتاج كل يوم إلى المطر ،فإذا حدث وانقطع المطر فترة ولو قصيرة فإنه يؤثر على الغلة والمحصول.
وكانت المرأة واقفة خلف الباب تستمع فانقذت البتول من الموقف الحرج حين ردت على المزين بقولها (هي إلا دقيفة «7» حين ، تحصل بعض السنين ، واني موافق على هذا الرجال البتول ، الذي بيده السعادة والقبول ومحصوله أهم محصول).
وهنا اقتنع الرجلان وانصرفا خائبين.
المعاني:
1- الزبرة - السندان.
2- الشنظريف- المقص.
3- الكريف - سد صغير.
4- مهير وسعادي- من أسماء الثيران.
5- الفُصَيرة بضم الفاء وفتح الصاد إشارة إلى قصر الفترة.
6- الوعدين - بمعنى أسبوعين حيث كان التقييم يعتمد على يوم السوق الأسبوعي ويسمى «وعد»
7- الدُّقيفة - تصغير لدقفة وتعني العثرة.