انتهت أعمال وفعاليات المُؤتمر السنوي الثالث للتعليم العالي .. لكنَّ الكثير من الهُموم ما زالت تُسيطر على واقع التعليم العالي .. وتقفز إلى الذاكرة لتُؤكِّد أنَّ المُستثمرين والتُّجَّار وجدوا أبواب كثيرٍ من الأعمال التجارية والاستثمارية مُغلقةً .. أو غير ذي جدوى .. أو أرباحها ضئيلة .. واتَّجهوا نحو التعليم العالي .. ليكسبوا الملايين .. بعيداً عن الإحساس بوجع أو بألم أو بوخز الضمير في تقديمهم تعليماً هشَّاً وتفريطهم في أمانة إعداد أجيالٍ قادمةٍ بمخزونٍ علميٍّ كافٍ .. وليس بالخواء الذي ما إن يدخل حتَّى يُغادر .. كونه مُستنداً على قاعدةٍ حسابيةٍ وليست تعليمية .. هدفها الأوَّل الربح في المال وليس في الفكر!!
{ ودعوني هُنا أُسجِّل تقديري للوزير المُختصّ الدُّكتور صالح باصرَّة في امتلاكه القُدرة على قول الحقيقة كيفما كانت .. وكيف أنَّه انتزع إعجابي ذات يومٍ وهُو يُؤكِّد في لقاءٍ تلفزيونيٍّ أنَّ حال الجامعات لن يصلح ما دام التعيين يتمّ بطريقةٍ حزبيةٍ وليست أكاديمية!
{ وليست مرَّةً واحدةً .. بل مرَّاتٍ عديدةً أجده صريحاً .. شفَّافاً .. واضحاً .. يقول كلمته ويمشي .. ولا أظنّ رَجُلاً مثله إلاَّ أنَّه مكسبٌ لوزارةٍ مُهمَّةٍ تُعنى بالتعليم العالي والبحث العلمي .. وجُهوده التي يبذلها لإصلاح الأوضاع والوصول إلى جودةٍ تعليميةٍ مُرتفعة .. تُؤكِّد أنَّنا نسير باتِّجاه الخُطوة الصحيحة.
{ لكن مع ذلك .. أجدني مشدوداً إلى صراحة الدُّكتور باصرَّة .. وحريصاً على أن أكون صريحاً وأكثر اهتماماً بالقضايا التعليمية التي تشغل الكثيرين وهي تذهب باتِّجاه مُستقبلٍ ملغومٍ بالمخاطر.
{ ولن أسأل عن واقعٍ جامعيٍّ عالٍ لن ينصلح ما دامت التعيينات فيه مُستندةً على إجراءاتٍ غير صحيحة .. فالدُّكتور على رأس الوزارة .. ومن البديهي أن يقول أيّ شخصٍ - وليس أنا فقط - : وكيف يتمّ ذلك؟ وَمَن المسؤول؟ ولماذا؟!
{ اللاَّفت للانتباه هذه الأيَّام .. أنَّ الخُطورة تتعمَّق في تعليمٍ جامعيٍّ أستطيع أن أصفه بالدكاكيني .. والكمّ غير القليل من الجامعات الخاصَّة يُؤكِّد ذلك .. ويضعنا أمام خُطورةٍ مُستقبليةٍ لتعليمٍ يمشي ليس على عُكَّازين .. ولكن على أربعة .. وعليكم أن تتخيَّلوا كيف يمشي!!
{ لنسأل أوَّلاً : مَنْ هُم المُستثمرون في التعليم الجامعي؟ من هُنا سنجد أنَّ هُناك مَنْ كان مُقاولاً .. ووجد فتح جامعةٍ خاصَّةٍ أفضل .. وهُناك مَنْ لا يفهم ما معنى التعليم الجامعي والعالي .. ولا يفهم سوى مقولة «مليون ينطح مليون» .. وهُناك مَنْ عَجِزَ عن تأجير عمارته المُصمَّمة كشُققٍ سكنيةٍ فجاء مَنْ يُلهمه لتحويلها إلى جامعةٍ خاصَّةَ!
{ يقول الدُّكتور صالح : لا نُريد أكشاكاً أو شُققاً أو عمارات .. بل نُريد جامعاتٍ ذات بُنيةٍ تحتية .. وهيئة تدريسٍ مُتكاملة .. ولا ينسى أن يُوجِّه التحذير والتهديد وهُو يُؤكِّد أنَّ جميع الجامعات الأهلية ليس لديها ترخيصٌ نهائيٌّ .. وسيتمّ سحب التراخيص إذا لم تأخذ بنظام الاعتماد الأكاديمي وضمان الجودة!
{ للأسف .. ما يقوله الدُّكتور عن الأكشاك .. والشُّقق والعمارات يزداد .. وَمَنِ امتلك أو اشترى أرضيةً صغيرةً مُطلَّةً على شارعٍ رئيسيٍّ حوَّلها إلى عمارة .. ووضعها في مزاد الإيجار .. وسيجد أنَّ المُستأجرين لها كجامعةٍ أكثر ممَّن يطلبونها كشُقق!!
{ دعونا من المظاهر .. إذا ما خرج مَنْ يقول : العلم ليس غُرفةً .. أو شُقَّةً .. أو ساحةً خضراء .. وهؤلاء حُججهم واهيةٌ جدَّاً ومُبرِّراتهم تُثير الاستغراب .. عليكم أن تبحثوا .. أو تسألوا عن المخزون العلمي .. وما تُقدِّمه تلك الجامعات أو حتَّى بعضها من فائدة .. وهل تبني أجيالاً واعيةً مُثقَّفةً مُتعلِّمةً تُواكب كُلّ جديد؟ أم أنَّ الأمر مُقتصرٌ على شهادةٍ جامعية .. والسلام؟!
{ سأضعُ أمامكم حالةً واحدةً تكشف ما وراء مستور التعليم الجامعي أو العالي .. ففي إحدى الجامعات اليمنية الخاصَّة .. تحوَّل طالب الثانوية الفنِّيَّة إلى طبيبٍ بشري .. وبكُلِّ بساطةٍ مطلوبٌ من وزارة التعليم العالي الاعتراف بمُؤهَّله الجديد وتعميده .. ما لم فالوزير «يُعرقلهم» .. والمُدير العام «يستقصدهم»!!
{ شهاداتٌ كثيرةٌ تأتي عن طريق ما يُسمُّونه التعليم عن بُعد .. وفي هذا العصر يبرز المُتفنِّنون عن بُعد .. وتُساهم الحالة المادِّيَّة .. والوجاهة - أيضاً - والفصيلة .. ابن تاجر .. أو مسؤول .. في الوصول إلى شهاداتٍ عاليةٍ في لمح البصر .. والمُتعهِّدون في مثل ذلك باستطاعتهم أن يأتوا بشهادة دُكتوراه من قُرونها ومن أيِّ بلد!!
{ وليست الجامعات الحُكومية مُنزَّهةً .. أو مُختلفةً عمَّا هُو حاصلٌ في الجامعات الخاصَّة أو عددٍ منها .. فكثيرٌ من الكُلِّيَّات والأقسام تُعاني من وجود مَنْ يحملها مُؤهَّل الدُّكتوراه .. وعددٌ منهم يتعامل مع طُلاَّبه بطُرقٍ استفزازية .. ولا يُجيد قراءة ما يُقدِّمه .. فكيف يُمكنه إجادة مُهمِّة إيصاله .. أو إفهامه للطُّلاَّب .. وعددٌ من «الدكاترة» يتفرَّغ لمُهمَّة «الملازم» وكيف يجني من ورائها الربح المُناسب .. وفي قاعة الدرس .. يشخط .. ينخط .. ويقرأ ما تيسَّر له .. ثُمَّ يقفل ويُغادر .. ولا جديد!!
{ وفي ظلِّ هكذا حال .. لا يُمكن أن أنسف خُطواتٍ وإجراءاتٍ تصحيحيةً تهتمّ بها الوزارة .. ويكفي أنَّ لها إدارةً للاعتماد والتصديق تعرف ماذا تعنيه أمانة المسؤولية .. كما أنَّ الخُطوات التي تمَّ تنفيذها وأثارت الغُبار عن المُستنفعين .. تُوجب أن نُشيد بها .. كمنع التعليم عن بُعد.
{ لكن .. هل باستطاعة الوزير وَمَنْ معه أن يُؤسِّسوا لمُستقبلٍ أفضل للتعليم الجامعي والعالي وللبحث العلمي؟ وهل ستخرج مُقرَّرات المُؤتمر الثالث لتتحوَّل إلى مصفوفةٍ تنفيذية؟ أم أنَّها ستلحق بما قبلها من توصياتٍ وتغيب الجودة والنوعية في مُقابل توسُّع وانتشار تعليم الضمير الغائب؟