إذا تجاوزنا النظرة السائدة عموماً في الأوساط الإسلامية، والتي جعلت الفارق الحاسم بين النظامين الماليين: الغربي، والإسلامي هو فارق «الفوائد» الربوية المحرمة إسلامياً، سيُظهر لنا سريعاً أن العلل الرئيسة التي سببت الأزمة المالية الحالية عالمياً تدور حول محاور إباحة الرأسمالية لعدد من القواعد والمعاملات، جميعها محرّم في الإسلام، مثل تحريم الربا.. وكذلك بيع بضاعة عينية لم يستلمها مشتريها بعدُ في مثل ما يُعرف بـ«البيع الآجل»، وهو البيع مع تأجيل موعد التسديد والاستلام.. ثم ما يُسمَّى «التوريق»، وبيع العقود الورقية مراراً، تبعاً لذلك بما يتجاوز قيمة البضاعة العينية المتعلقة بها.. هذا فضلاً عن ممارسات أخرى عديدة كالمراهنات المستقبلية، ناهيك عن رفع مختلف ألوان الرقابة والمحاسبة بصورة فعالة على مالك الثروات، وكيف يستخدمها في الأسواق.
في الغرب أصبحت الأسباب لوقوع الأزمة الكبرى معروفة، وهو ما يجعل الحكومات على استعداد للإقدام على إجراءات تخالف أصول الفكر الرأسمالي جملة وتفصيلاً، وقد بلغت درجة تأميم بعض المصارف كلياً أو جزئياً.
ولكن هل يمكن القول باحتمال ظهور النظام الإسلامي أو اتساع نطاق الأخذ به في الغرب وعالميا، كبديل ـ ولو جزئياً ـ عن الممارسات الرأسمالية التي يظهر فسادها يوماً بعد يوم، وبصور مأساوية وكوارث جماعية في حياة البشرية؟
عوامل عديدة تدفع إلى ترجيح هذا الاحتمال، أو إلى التكهّن بترجيحه على الأقل، ومنها:
< الانفتاح الفكري على مصادر الإسلام: لاسيما في قطاعات الشبيبة الغربية، وهو ما شهد في السنوات الماضية تطوراً ملحوظاً، يمكن أن يزداد ويشمل الجوانب المالية والاقتصادية الإسلامية تحت وطأة الغضب المتصاعد نتيجة آثار الأزمة المالية العالمية في المعيشة اليومية، والأسلوب السياسي الحكومي في معالجتها لصالح أصحاب الثروات أكثر من العامة من الشعوب.
ويكمن أهم عناصر هذا الانفتاح التدريجي في أن التعامل مع الإسلام بدأ يميل إلى استيعاب شموليته لشؤون الدنيا والآخرة معاً، وهذا بدلاً مما ساد في الغرب عبر قرون عديدة للتعامل مع الإسلام وفق مفهوم كلمة «الدين» في الوعي المعرفي الغربي، أي المفهوم الذي يقصر المقصود بالكلمة على العلاقة بين العبد وربه إيماناً وعبادات، وفي بعض الجوانب الأخلاقية.
< الأزمة المالية العالمية لم تعد مجرد «أزمة مصرفية»: كما جرى تصويرها خلال الشهور الأولى التي مضت على اندلاعها نتيجة انهيار قطاع الرهون العقارية الأمريكية، بل أصبحت الآن مطروحة وعلى نطاق واسع يشمل السياسة والإعلام والمراكز الفكرية.
إنها أزمة المنهج الرأسمالي نفسه.. ولم يعد السؤال الرئيس المطروح يركز على الخروج من هذه الأزمة بحلول وقتية تعيد مجرى المعاملات المالية المصرفية إلى سابق عهدها، بل يبحث ما سيبقى من النظام الرأسمالي نفسه بعد ذلك، وما إذا كانت الأزمة ستصل ـ بعد تهدئتها في القطاع المصرفي ـ إلى القطاعات الاقتصادية في ميادين الإنتاج والخدمات والتبادل التجاري والاستثمارات.
< ردود فعل مبدئية وضعيفة حتى الآن داخل الساحة الإسلامية للربط بين الأزمة العالمية الحالية، والعلاج الذي يمكن أن يقدمه النظام المالي الإسلامي على مستوى البشرية، وهو ما يؤخذ من تصريحات صدرت على لسان بعض أصحاب الرؤى الإسلامية في القطاع المالي والاقتصادي، مثل حائز جائزة نوبل للسلام من «بنجلاديش» «محمد يونس»، أو «د. محمد عبد الحليم عمر»، (مدير مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي) في مصر.
وفي النقطتين الأولى والثانية ما يشير إلى توافر الأجواء المناسبة، كما لم يكن من قبل، من أجل التعرّف على جوانب أساسية من النظام المالي الإسلامي، وقابلية تطبيقها عالمياً، على أساس الاقتناع الموضوعي المنهجي بها، ولكن لن يتحقق ذلك على أرض الواقع دون أن تتطور ردود الأفعال المشار إلى بعض نماذجها في النقطة الثالثة، وأن يتطور ما سبقها من دعوات مشابهة للتعريف بالجوانب المالية والاقتصادية في الإسلام، والمقصود بذلك.
ولكن لا ينبغي الاكتفاء بأساليب العرض والطرح والنقاش التقليدية الصالحة لإقناع المسلمين «فقط»، اعتماداً على التصديق المسبق بالإسلام نفسه وبمصادره، فهذه الأساليب مطلوبة، وينبغي الاستمرار في الأخذ بها، ولكن مع إدراك أن مفعولها على أرض الواقع يقتصر على ضرورة الأخذ بالنظام الإسلامي في البلدان الإسلامية تحديداً.. إنما يجب أن تضاف إلى ذلك أساليب أخرى، وهذا ما تتوافر الفرصة له الآن أكثر من أي وقت مضى، وأن يكون محورها قائماً على مشاريع متكاملة وبحوث ودراسات منهجية، تكون موجهة مضموناً وأسلوباً إلى غير المسلمين أيضاً، من منطلق أن الإسلام نفسه يصلح للبشرية جمعاء، ولإصلاح أحوالها وحل أزماتها.
ولا نغفل هنا، أن من يأخذ بأنظمة الإسلام التطبيقية يجد ثمرة ذلك في الحياة الدنيا، وهو ما لا ينفي بطبيعة الحال أن من يأخذ بها وينطلق في الوقت نفسه من منطلق الإيمان، ومن الشمولية والتكامل بين مختلف جوانب الإسلام، فإنه يجد ثمرة ذلك في الحياة الدنيا.. وفي الآخرة أيضاً.
مّن كّانّ يٍرٌيدٍ پًعّاجٌلّةّ عّجَّلًنّا لّهٍ فٌيهّا مّا نّشّاءٍ لٌمّن نٍَرٌيدٍ ثٍمَّ جّعّلًنّا لّهٍ جّهّنَّمّ يّصًلاهّا مّذًمٍومْا مَّدًحٍورْا >18< $ّمّنً أّرّادّ الآخٌرّةّ $ّسّعّى لّهّا سّعًيّهّا $ّهٍوّ مٍؤًمٌنِ فّأٍوًلّئٌكّ كّانّ سّعًيٍهٍم مَّشًكٍورْا >19<كٍلاَْ نٍَمٌدٍَ هّؤٍلاءٌ $ّهّؤٍلاءٌ مٌنً عّطّاءٌ رّبٌَكّ $ّمّا كّانّ عّطّاءٍ رّبٌَكّ مّحًظٍورْا>20< (الإسراء).>