مما وصلنا من لطائف الأدب حادثة أدبية طريفة جرت في زمن سيف الدولة الحمداني، بينه وبين شاعر من (الأحَص) أوردها عدد غير كثير من المؤلفين وذكرها ياقوت الحموي في كتابه «معجم البلدان».
ولأننا في عصر كثير ما تبخس فيه حقوق الناس وقل فيه من ينتصف لهم بمن فيهم الأدباء الذين هم ليسوا بأوفر حظاً من غيرهم، فأنا أهدي هذا الخبر الطريف لكل أديب يمني مهضوم جارت عليه سنوات التهميش في وقتنا الحاضر، لعلي أسليه وأطيب خاطره على الأقل من باب الشكر والعرفان بمكانتهم لأن من لا يشكر الناس لا يشكر الله وكذا أنزلوا الناس منازلهم، وحديثنا عن شاعر يعرف «بالناشي الأحصي» والأحص موضع بالشام من نواحي حلب، والشاعر (الناشي) كان في أيام سيف الدولة (أبي الحسن علي بن حمدان)، وخبره أن هذا الشاعر دخل على سيف الدولة الحمداني، فأنشده قصيدة له فيه، فاعتذر سيف الدولة بضيق اليد يومئذ وأن ليس عنده من مال يجود به عليه وطلب من الشاعر أن يأتيه في يوم آخر فيضاعف له جائزته ويحسن إليه، فخرج الشاعر من عنده فوجد على باب سيف الدولة كلاباً تذبح لها (السخال وتطعم لحومها) فعاد إلى سيف الدولة وأنشده هذه الأبيات:
رأيت بباب داركم كلاباً
تغذيها وتطعمها السخالا
فما في الأرض أدبر من أديب
يكون الكلب أحسن منه حالا
ثم عاد الشاعر (الناشي) إلى بيته ولم تمض سوى أيام قلائل حتى جاءت إلى سيف الدولة أموال من بعض الجهات على بغال، فضاع منها بغل بما عليه وهو عشرة آلاف دينار، وصادف أن جاء هذا البغل حتى وقف على باب الناشي (بالأحص) فسمع حسه فظنه لصاً، فخرج إليه بسلاح، فوجده بغلاً موقراً بالمال فأخذ ما عليه من المال وأطلقه، ثم دخل حلب ودخل على سيف الدولة وأنشده قصيدة له يقول فيها:
ومن ظن أن الرزق يأتي بحيلة
فقد كذبته نفسه وهو آثم
يفوت الغنى من لاينام عن السرى
وآخر يأتي رزقه وهو نائم
فقال له سيف الدولة: بحياتي! وصل إليك المال الذي على البغل؟
فقال: نعم، فقال خذه بجائزتك مباركاً لك فيه، فقيل لسيف الدولة كيف عرفت ذلك؟ قال عرفته من قوله:«وآخر يأتي رزقه وهو نائم».
وفي الأخير وليس بآخر أقول لكل أديب يمني مغلوب على أمره بمن فيهم الشعراء وكتاب القصة والرواية وحملة الشهادات العليا في الأدب:
صبراً صبراً فوالله إن منزلتكم لرفيعة في نفوسنا وصحيح أننا لم نستطع أن نكرمكم ولا نستطيع أن نعيد لكم سيف الدولة الحمداني ليثمن لكم أدبكم إلا أننا نأمل أن يسوق الله إليكم بغالاً محملة بالأموال والعطايا كتلك التي وصلت إلى الشاعر (الناشي) ليكون ماعليها جزاءً لثروتكم الأدبية ولجهودكم المبذولة لكي لا يفقد الأدب مكانته، لاسيما ونحن في وقت غررت بنا فيه كثير من الملهيات فصرفتنا عن أدبنا العربي وأصبحت لغة المادة هي الطاغية فيه، ولا حظ للأدب والأدباء، لكن لا يعني هذا أن قدركم قد انتقص فمكانتكم تكمن في نفوسكم وعلو منزلتكم، فأنتم تحملون مستقبلكم بعقولكم وستكتبون مصيركم بأيديكم وستبقون أنموذجاً للأجيال المتعاقبة ومسلكاً للنور الذي تزال به عتمة الجهل، وقنديلاً يضيء للبشرية طريقها نحو مستقبل مشرق يعلو ولا يعلى عليه، فلابد من مجيء يوم تحظون فيه بكثير من التقدير والاحترام، وليس ذاك ببعيد فالأيام دول وسبحان من له دوام الحال.