من المشكلات التي تعيق عملية تنمية الدول وتطورها هي تفشّي ظاهرة الفساد، والتي تشمل السرقات، استغلال المناصب، الاحتكار، الرشاوى، والتوظيف بحسب المحسوبية والمحاباة والولاءات والواسطة، سوء استغلال الصلاحيات، تغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، وتعاطي الرشوة، كل ذلك ينخر في عملة التنمية الطموحة للبلدان.
ومن أبرز تلك المفاسد هي الحالة اللصوصية التي يتستر تحتها المتلاعبون بالمال العام والخاص للدولة والمواطن معاً، وتكون آثاره سيئة جداً على أبناء الوطن وعلى النظام بشكل مباشر أو غير مباشر.
يعرّف الفساد بأنه «إساءة استخدام السلطة لتحقيق مآرب نفعية مادية خاصة بطريقة غير مشروعة ودون وجه حقّ، أي استخدام المنصب الحكومي لإضفاء غطاء قانوني على ممارسات مشبوهة ولتحقيق مكاسب خاصّة».
ومن أسوأ أنواع الفساد تعيين الشخص غير المناسب في منصب غير مؤهّل له، وذلك بسبب القرابة أو عن طريق التوريث الوظيفي، على حساب مبدأ «الكفاءة والموهبة»، حتى يتمكن من تحقيق مآرب ومطامع من عيّنوه ورفعوه، وما أكثر ذلك في بلادنا!.
وأتمنى لو تُنَظْم لجان رقابية فعّالة مخلصة للوطن لترى كم يحكم هذا السلوك في وطننا!.
ومن المفاسد أيضاً هي بروز ظاهرة الرشوة التي يقوم بها طرفان الراشي والمرتشي لتمشية الأعمال والالتفاف على القوانين.
ولكن ليطمئن المفسدون –ولا يخجلوا- أن هذه الظاهرة هي عالمية تشمل الدول الغنية والفقيرة، حيث خلصت أبحاث معهد البنك الدولي إلى أن أكثر من تريليون دولار أمريكي تدفع رشاوى كل عام. ويعلّق على ذلك مدير المعهد لشؤون نظام الإدارة العامة «دانيال كاوفمان» بقوله: «إن رقم تريليون دولار رقم تقديري للرشاوى الفعلية المدفوعة في أرجاء العالم في البلدان الغنية والنامية، ويقول: «من المهم التأكيد على أن هذه المشكلة لا تواجه البلدان النامية وحدها فحسب، بل إن محاربة الفساد تحدّ عالمي».
وجاء في تقرير لمنظمة الشفافية الدولية، أن الزعيم الإندونيسي السابق «سوهارتو» اختلس ما بين 15 و35 مليار دولار من بلاده، في حين اختلس «فيرديناندو ماركوس» في الفلبين و«موبوتو» في زائير و«أباتشا» في نيجيريا ما يصل إلى 5 مليارات دولار أمريكي لكل منهم».
وأكدت أبحاث معهد البنك الدولي أن البلدان التي تكافح الفساد وتحسن من سيادة القانون فيها يمكنها أن تزيد دخولها الوطنية بما يبلغ أربعة أضعاف على المدى الطويل، وتقول الأبحاث إن بلداً يبلغ فيه نصيب الفرد من الدخل 2000 دولار أمريكي يمكنه إذا جابه الفساد وعمل على تحسين نظام الإدارة العامة وسيادة القانون فيه أن يتوقع زيادة نصيب الفرد من الدخل فيه إلى 8000 دولار أمريكي على المدى الطويل.
ومن هنا لا نستطيع القيام بالتنمية الحقيقية من دون ممارسة حق محاربة الفساد، وحماية الضعيف، ومحاسبة المتلاعبين من أصحاب النفوذ، فكأين منا يعلم ويعرف بعض المتلاعبين الذين استغلوا المناصب التي هم فيها، ولكن لا يتناهون عن منكر فعلوه.
ويتفنن المفسدون في التعاطي مع الفساد بأن يغلّفُوا الرشاوى بلباس الطهارة، فقد أهدى أحد الأثرياء أرضاً «مزرعة» تعادل قيمتها المليون ريال لشخصية مرموقة في« جهاز حساس» جداً، وجاء رجل آخر يشتري الأرض (برشوة ) قيمتها سبعة مليون ريال، ونرى آخر رئيس بلدية لم يتجاوز راتبه عشرة آلاف ريال أو الخمسة عشر ألف ريال وإذا هو ثري! إقطاعي يمتلك أراضي شاسعة، وسيارة «شبح» له ولا بناءه، فمن أين أتى بهذه الثروة السريعة؟!.
ولكن ما أجمل أن نسمع عن محاكمات ومحاسبات وغرامات وسجن على شخصيات كبيرة في بعض البلاد، وقد سمع العالم عن محاكمة مجموعة من المسئولين السابقين في شركة «انرون» الأمريكية للطاقة، وكان من بين المتهمين المدير المالي «اندرو فاستو»-الذي ربط بمصالح قوية مع عائلة آل بوش، ولن يحميه من المحاسبة- ووجه إليه القضاء أكثر من 100 تهمة بالفساد واستغلال المنصب وتبييض الأموال».
وبما أن في الدول المتقدمة التي تقوم على الديمقراطية تتوفر لديها آليات فعالة وشفافية واضحة تتكفل بفضح مظاهر الفساد والتلاعب بسرعة، ولكن نحن لدينا تغيّيب –عمّداً- لآليات الأجهزة الرقابية والمحاسبة والمطالبة.
من هنا تبرز ضرورة حق المواطن المطالبة بالشفافية، وحق المحاسبة والمساءلة والمقاضاة وكشف البيانات بشفافية تامة، مع ظهور جهة منظمة غير حكومية لمراقبة سير المعاملات الحكومية التجارية ومراقبة الأداء والتنفيذ والتخطيط، ووضع الجزاءات الرادعة والفعاّلة، ووضع استراتيجيات وقواني وسياسات وطنية لمكافحة الفساد.
وعلينا أن لاّ نقول ما فات مات، «وعفا الله عما سلف» ويفلت الجنات بجريمتهم، بل تجب المحاسبة والمساءلة لكل متلاعب بالمال العام الذي هو ملك لأبناء الوطن، وأن تصل يد العدالة إلى كل مفسد.
حتى لا يسمى هذا «فساد مسكوت» عنه، لأن المفسد كان من ذوي المستويات الرفيعة، أو لأنه مشارك مع مستويات رفيعة أو لأنه من فخذ «قبيلة فلان»، أو العائلة الفلانية، أو لأنه صار ثرياً وذا وجاهة لا يمكن إيقافه ومحاسبته.
روي في عهد الإمام علي أن رجلين احتالا على الناس، فأصابا منهم أموالاً طائلة وذلك أن كل واحد منهما كان يبيع الآخر على أنه عبد، ثم يهربان من بلد إلى بلد، يكرران الفعل نفسه، فحكم الإمام بقطع أيديهما، لأنهما سارقان لأموال الناس![1] .
هكذا كان الأمام علي يتعامل مع من يتلاعب بأموال الناس وحقوقهم.
ونرى إن الخليفة عمر بن الخطاب أوقف أبو هريرة والي البحرين آنذاك وحاسبه على الثروة التي جمعها، وقال له: من أين أتيت بها؟. وقد صادر نصفها وأبقى الآخر في بيت مال المسلمين.
وروي أن الخليفة عمر بن الخطاب كان يعمد بعض الأوقات على ما جمعه عمّاله فيصادر نصفه لبيت المال، ويترك لهم نصفه، إرضاء لهم من جهة، وإرضاء للعامة من جهة أُخرى، مع أن بعضهم كان يجمع الأموال خيانةً، ولصوصية، مث معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وغيرهما، ولقد أقرّ أقوام من الصحابة ما كان يفعله عمر.
أما علي فقد كان يصنع ما يصنعه بهذا الصنف من الولاة رفقاً لا يجوز، أو شدّة ليست من حقه!.
فقد قال الإمام علي لعمر: «لئن كان عمالك خَوَنةٌ، وكان هذا المال في أيديهم خيانة، ما حلّ لك تركه، وكان لك أن تأخذه كله، فإنه فيء للمسلمين، فما لك تأخذ نصفه وتترك نصفه؟! ولئن كانوا غير خونة، فما حلّ لك أن تأخذ أموالهم، ولا شيئاً منها قليلاً أو كثيراً! وأعجب من ذلك إعادتك إياهم إلى أعمالهم !، لئن كانوا خونة، ما حلّ لك أن تستعملهم ! وإن كانوا غير خونة ما حقّت لك أموالهم»[2] .
يقول الإمام علي : «ألا وإن كل ما أقطعه عثمان من مال الله مردود إلى بيت مال المسلمين، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، وواللهِ لو وجدتهُ تفرق في البلدان وتزوّج به النساء وملك به الإماء، لرددته، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم»[3] .
وقد استجوب الفرنسيون أمام القضاء ابنة رئيس الجمهورية «كلود شيراك» بتهمة مرافقة والديها في رحلات سياحية دفعت أثمانها عداً ونقداً, كما أنهم استجوبوا زوجة الرئيس السيدة «برناديب» لأنها رافقت زوجها في رحلات إلى إفريقيا وأمريكا ويسألونها عن كل وجهة زارتها, وعن كل فرنك أنفق على تذاكر الطائرات. ولو كان القانون يسمح لاستجوبوا الرئيس ولاستدعوه ليقف أمام قاضي التحقيق مثل أي خارج عن القانون. كم هو المبلغ الذي يقال إنه دفع نقداً لرحلات سياحية خاصة؟ إنه لا يتجاوز 300 ألف دولار, خلال أربع سنوات كان شيراك خلالها رئيساً لبلدية باريس قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية. وقفت ابنة الرئيس أمام المحقق وقالت: إنها رافقت أباها إلى أمريكا في مهمة رسمية على اعتبارها مستشارة إعلامية ونفت أن تكون قد زارت كينيا, كما يتهمونها, وقالت إنها لم تر هذا البلد. وبعد التحقيق والتدقيق والمراجعة وسؤال شركات السياحة وسكرتيرات البلدية, تبين أن المبلغ المتنازع عليه أصغر من الرقم المعلن, بكثير وأن الرئيس وأسرته كانوا يقومون برحلاتهم الخاصة على نفقة بعض الأصدقاء الأثرياء, لأن مرتب رئيس بلدية باريس لا يسمح بمثل هذا الترف. وما دامت المعركة الانتخابية على الأبواب فإن خصوم شيراك سيحاسبونه على كل لقمة دخلت فمه وفم ابنته وزوجته!.
مع وجود فارق أساسي بيننا وبينهم فهم أنظمة حرّة ومؤسساتية فيواجه هناك بمؤسسة القضاء المستقلة التي لا يستطيع أي رئيس التدخل فيها، لأنها هي الأقوى، والسلطة العليا للبلاد، إضافة إلى وجود الرأي العام الذي تكون له سلطة مؤثرة.
والفساد لا يقتصر -فقط- على المال وإنما هناك مجالات أخرى مترابطة بعضها ببعض، كالفساد الثقافي وهو الذي يتحول فيها الرأي الحرّ إلى بوق للسلطة ومادح لها، ومسوّغ لأطروحاتها وديكتاتوريتها، وممجد لرموزها وسياساتها الفاشلة.
وهناك الفساد السياسي، وهو مثال تكّبت فيه الحريات، ويتم فيه التفرد بالسلطة لعائلة أو حزتواحد، وتنعدم في ظله أية معارضة أو منافسة حقيقية.
وهناك الكثير من أنواع الفساد كالأخلاقي، والاقتصادي، والإداري، والبيئي، والإعلامي.
ومن واقع الدول الخليجية «الكويت» ذكر مصدر مسؤول أن رئيس جهاز أمن الدولة الشيخ مشعل الجراح قال: «إن الحكومة قامت بدفع سبعة ملايين دينار للنواب لتمرير حقوق المرأة السياسية يمثل اتهاماً صريحاً بوجود طرفين للرشوة هما الحكومة «الراشي» والنواب «المرتشي».
يقول «دي سوتو» العالم في الاقتصاد وهو من ألبيرو: «إني أعلم الآن لماذا نجد في العالم دولاً فقيرة وأخرى غنية..نحن عالم من 169 دولة.. خمس وعشرون منها فقط حققت نجاحاً على الصعيد الاقتصادي لأنها حدّت من إمكانات تجديد المواطنين العاديين من ثمار صناعتهم وإبداعهم، الجواب يختصر بكلمة واحدة: «الحرية».
ويقول: «لزملائه فلنرى أي صعوبات تواجه امرؤا يودّ مباشرة مشروع خاص، ثم أوكل إلى محام أربعة متطوعين جامعيين إنشاء مصنع ملابس قوامه ماكينتا خياطة، تزود الفريق بمفكرات وساعات توقيت وشرع في طلب الرخص الحكومية الضرورية لإعطاء المصنع صفة شرعية ونبههم «دي سوتو»: «لا تدفعوا رشوة إلا في حال الضرورة القصوى».
زار الفريق المكاتب الحكومية ووقف في الصفوف الطويلة وملأ الاستمارات واصطدم بعشرة طلبات رشوة ودفعها مرتين مكرهاً وبلغ مجموع الكلفة من نفقات ووقت مهدور 1231 دولاراً، أي أجرة 32 شهراً بحسب الحد الأدنى القانوني للرواتب، وأخيراً استنتج الفريق أن على المرء أن يمضي 289 يوماً، بمعدل ست ساعات يومياً لينال رخصة حكومية، ثم أرسل «دي سوتو» باحثاً إلى مدينة تامبا في ولاية فلوريدا الأمريكية لمعاودة الاختبار، فكان أن نال الرخصة القانونية كاملة خلال ثلاث ساعات ونصف ساعة»[4] .
قال الإمام علي : «وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدّماء والمغانم والأحكام، وإمامة المسلمين البخيل.. ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع»[5] .
وقال رسول الله : «يا علي من السّحت: ثمن الميتة، وثمن الكلب، وثمن الخمر، ومهر الزّانية، والرّشوة في الحكم، وأجر الكاهن»[6] .
و«في قوله تعالى: ﴿ أكّالون للسّحت ﴾ هو الرجل يقضي لأخيه الحاجة ثم يقبل هديّته»[7] .
قال رسول : «لعن الله الرّاشي والمرتشي في الحكم»[8] .