مدينة تمضغ حزنها بصمت

[مدينة تمضغ حزنها بصمت.
يمكنك مطالعة الضجر هنا في عيون أبوابها عند


الثانية عصرا ستجد الضجر هناك واقفا..
تعز المدينة الفتية التي نضج في أحشائها المولود السبتمبري ومن ثدييها الدافئين رضع
حليب الإصرار والتحدي.. ماذاعساها تقول للظمأ والنسيان والإهمال.. بعد أن غادرها
الـ عز.. وبقيت مدينة للتقاعد غير المعلن وغير المنشور على الجريدة الرسمية
للقرارات

/ صدام الحمادي


بدأت فكرة قبل شهر
تغازلني للبحث عن تفاصيل مدينة أحيلت إلى التقاعد قبل أكثر من عقدين مضى، وقبل ذلك
حين أطلق عليها لقب "الحالمة" لم تعد تمتلك هذا اللقب، إنها تعيش حالة من ستهعصاء
الوصف، يجدر بنا القول إنها تقبع تحت رحمة محترف يمارس بحقها أقصى صنوف التعذيب
الجسدي لتخليها عن لقب "الحالمة".

مخيف على المرء أن يطل
من شاهق على مدينة اسمها تعز.. وهي التي كانت إلى قبل سنوات في عصرها الذهبي تستقبل
زوارها بالمسك.. وتكللهم بالفل.

حين يماسم القدر تفاصيل
قُبلة

حين يماسم القدر تفاصيل
صدفة في قلب مدينة آهلة بالود فإن عليك أن تعلن حالة ستهنفار لإطفاء ذكريات
حرائقك.. المتشبثة بجدران قلبك وتكوين إنسانيتك، إن كنت على موعد مع ذلك، فإن ذلك
يدعوك إلى ستهلهام ذكرياتك الطفولية المتناثرة هنا وهناك.. إذا أنت بحاجة إلى أن
تدرك جيدا أن كل الطرق تؤدي إلى تعز شريان مقاصدك .. أنت هنا في وضع لا يؤهلك
الإطلالة لإطفاء حرائقك من نافذة واحدة.

كم أنت مظلومة يا تعز
كم أنت حزينة.. كم تعانين وجع العذاب.. ووجع الإقصاء والإلغاء.. ووجع التهميش، يا
مدينة الرسوليين والعباسيين، ماذا حل بك، من ذا سرق أحلامك وتاريخك العريق وزهو
إبائك.

يصعب على الإنسان العبد
الله كاتب هذه السطور أن يقدم صورة مكتملة لمعاناة (تعز) تلك المدينة التي عرفت
بثقافة وكرم أهلها.. مدينة عشقت السلم والوحدة والحوار، مدينة شكلت مصنعا لانتاج
خيرة رجال الفكر والثقافة والسياسة والفن، ولم يتم مبادلتها إلا بالحرمان، حين نمضي
بالقارئ في ثنايا هذه السطور، فإننا سنمضيبه بعيدا عن الشطحات والمبالغة في نقل
حقائق متواضعة، وما خفي كان أعظم.

أكثر ما يشد انتباهك..
رتابة الوقت.. وحياة الناس، إلا أن ذلك لا يعفي من وجود نشاط ودبيب حياة بكل
تفاصيلها وقوتها التي ألفت عليها وظلت عنوانا للإنسان التعزي، وعلى عكس المحافظات
الأخرى تبدو تعزوكأن حركة البناء مشلولة فيها،أما إذا بحثت عن أسباب توقف عجلة
البناء ستجد الإجابة جاهزة من أفواه العقلاء وحتى المجانين، أزمة المياه لا أكثر؟
يمكن قراءة واقع وحياة المدينة عبر الكثير من المشاهد ففي مدخل المدينة وأنت قادم
إليها من إب (الحوبان) ستصادف على مدخل شارع القصر، طفلا ملقى غارقا في بؤس طفولة
محرومة من ابسط مقومات الحياة، لعل ما في الصورة يترجم الكثير من الكلام ويختصر
المفيد، لتبقى الحقيقة كشمس تجلو أشعتها مأساة هذا الطفل وتلتهم جسده بشهادة غير
مزورة. وفي سوق الصميل تجبرك لحظة إبداع على التقاط صورة لشجرة كبيرة، تلك الشجرة
تحتفي بلافتة كتب عليها "مركز رؤى الإبداعي" المبدعون المؤسسون للمركز بعد أن
حاصرهم المؤجرون ومندوبو الضرائب وبحسب "فضول" صارو يستقبلون زوار المركز مؤقتا تحت
هذه الشجرة الشهيرة بسوق الصميل جوار قسم الشرطة، هذا الحصار والتضييق ينسف بجلاء
حقيقة اهتمام الدولة بالمبدعين ويعري المزاعم المسوقة بغطاء الاهتمام الثقافي، و
أسطورته تعز عاصمة الثقافة اليمنية، و هذا حال أيضا جماعة العراطيط الأدبية التي
أطلقت في المدينة مؤخرا لم تجد موطئ قدم لإبراز إبداعاتها سوى "الشارع". وعن تعز
بعيون الشاعر والأديب فاروق السامعي ، وهو بالمناسبة عضو جماعة العراطيط الأدبية
يقول:

هنا لا شيء جديد عدا
هذه السمفونية التي تعزفها معاول الهدم الحضري وتمارسها بانتظام منذ أواخر
السبعينات. ولا يمكن توصيف ما يمارس على هذه المدينة إلا بالقول إنه تنفيذ أحكام
عرفية متدرجة في مراحلها هدفها الموت ووسيلتها التلذذ بتعذيب الضحية.

ربما أن هدف القاتل أو
طابور القتلة هو مكافأة هذه المدينة بمشروع موات بأبعاد إستراتيجية نفذت معظم
مراحلها مذ كانت هذه المدينة قبلة الوجوه وحاضرة كل ما هو مدني وحضاري.

في بداية الثمانينات
تحولت هذه القبلة إلى مجرد محطة عبور (ترنزيت) ثم ستهكثرت عليها هذه المرحلة كونها
تأخذ طابعا ديناميكيا يربطها بالحياة رغم طاحونة الوجوه التي لا تستقر مما دفع
أصحاب المشروع إلى سحب البساط الديناميكي من تحت قدميها والدفع بها إلى رأس جدول
المحافظات الطاردة بعد قتل كل ما هو حي أو يمت للحركة والحراك بصلة وأصبحت قرية
كبيرة أو عجوزاً يزورها الأبناء في المناسبات والأعياد فقط.

وهم الآن في سبيل
تحويلها إلى مجرد مقبرة تعج بالنُّصُب الخرسانية والإسمنتية وتغيب عنها
الروح.

إن ما يحدث لها في حزمة
المشروع الانتقامي الغربي هو ستهقصاد غير بريء يقتلها العطش منذ 30 عاما بينما آبار
النخب والقيادات النظامية تبقر أثداءها الجافة لري مزارعهم أو حتى لغسل
سياراتهم.

ينزح السكان إلى المدن
الأخرى بحثا عن الماء ولقمة العيش اللذين أصبح أمر الحصول عليهما صعباً في مدينة
أشبه بالقبر الجماعي خاصة بعد إسقاط أغرب مشروع إحلال واسلبة للوظائف العامة
المخصصة لها لصالح الـ... بينما تعج أرصفة المدينة والمدن الأخرى بكوادرها المؤهلة
خاصة وهي تتصدر محافظات الجمهورية بنسبة التعليم ووفرة التخصصات النوعية والبطالة
والفقر.

يتلحف البسطاء أرصفتها
بينما يفترش الغرباء المفروضين عليها نهودها الجبلية ونتواءتها الصخرية وأبنيتها
فيغادرها من تعوزهم الظروف عن امتلاك رصيف واحد للحلم بها وقد كانت عاصمة للساسة
ورؤوس المال والثقافة والنخب.. أسقطت الآن من دائرة الضوء ولم تعد قادرة حتى على
مجرد تسكين وزير ينتمي لها في التشكيلة الوزارية الجديدة.

تعز من
الداخل..

.. الكل يشكو صغيرهم
قبل كبيرهم، عشوائية فساد، تفشي الأمراض، ازدياد نسبة الأمية سوء خدمات صحية، وهلم
جرا، على صباح تعزي تستيقظ على صوت ذي شأن وهو يقول بأعلى صوته مخاطبا المارة في
سوق العواضي "أنا جيعان وبني أيرري...؟ والله لو كان أيام الحمدي ما سبيتوا
لكم".

لا يكفي لزائر تعز أن
ينصف أوجاع مدينة بظرف يوم أو يومين أو أسبوع أو أكثر، إنها أوجاع تراكمت منذ سنوات
ومورست بحقها أقسى صنوف العذاب والإهمال فكان مصيرها مبعث علامة ستهفهام كبيرة
وستظل.. حتى تتحرر من خرائب اطلالها وما حل بها كمدينة المدن وجوهرة حاضرة اليمن،
قالها الحاج سعيد عبد الله شاهر- طاعنٌ في السن في شهادته على ماضي وحاضر تعز: يا
ابني حتى قبل عشرين عاما كانت تعز يفوح من حواريها المسك.. أما الآن عزك الله يفوح
منها الـ.....؟ اختصر الحاج شهادته ليؤكد أن دمارا منظما يمارس بحق المدينة
وحضارتها.

أكثر ما يقلق حياة
السكان بدرجة أساسية شح المياه وعدم وضع حد لتسرب المياه في المواسير وشبكات
الصيانة ووضع آلية منتظمة لتوزيع المياه بشكل عادل، علاوة على ذلك وبحسب أحد سكان
المدينة فإنه إذالم يوفر الماء فيلجأ إلى شراء وايت يصل في أغلب الأحيان إلى أكثر
من خمسة آلاف ريال، قالتها الحاجة بحرقة وألم شديدين على ذهاب مبالغ قيمة توفير
الماء، وفشلت في مواراة دموعها حسرة على إهدار مبالغ يفترض أن تسد عوز الفاقة
ورعاية أطفال ابنها الشهيد الذي سقط ذات حرب بلا مشروع.

تفاصيل مدينة آهلة
بالحب والعشق والثقافة والعراقة واحترام القادم إليها، تتوق في المقابل أن تعادلها
كرامتها وإنسانيتها في التحرر وأماكن أخرى وتفيض المدينة بالموتورات.. متخمة ببطالة
شبابها، هنا ستجد محمد حزام الجرادي وهو بالمناسبة يقود موتور للتغلب على حاجات
أسرته بعد ما فشل في الوصول إلى وظيفة وهو الحاصل على بكالوريوس تربية، محمد يترجم
حياة عشرات من الباحثين عن وظيفة تحميهم من التشرد والضياع وكثيرون هم من فشلوا في
إيجاد حياة سعيدة ومنهم من قاتل ومنهم من أصيب بالجنون وصار على الأرصفة، وآخر بين
بين وآخر يختصر حياته بالانتحار.

حين يماسم القدر الغوص
في دهاليز وزقاق مدينة كانت كبيرة بعظمتها وكينونتها وغدت أشبه بقرية كبيرة يمكن
لعدسة أن تماسم فرصة ستهلهام لالتقاط صورة لرجل يعزف ذات ظهيرة ،الرجل ليس مهووسا
أو مصابا بحالة، ولكنه يعيش في كامل وعيه بصحبة "جلن" مثبت على هيئة عود، التقطت
هذه الصورة بعفوية من قلب المدينة وأكثرها ازدحاما بالمتسوقين - التحرير- على قارعة
الشارع العام، حملت لغة تعبيرية مؤثرة عن واقع وحال العشوائية والانغلاق والعزلة
والتراجع الثقافي، وهي تبحث عن من ينجدها وينتشلها من مأساة ثالوث: الانغلاق،
العشوائية، العطش، ننشر الصورة بتفاصيلها دون تدخل ، ولعل ما يمكن التذكير به هو
التركيز على قفلي باب الكشك، والحليم تكفيه الإشارة، قبل أن أغادر الرجل الذي فشلت
في معرفة اسمه كان لسان حاله يقول:

أشكي لمن فيك


ومن لي تفعله أشكي لمن


وكم صحت في
أذنك

وكم رأسي توطأ لك
ودن

مع الاعتذار
للأغنية

أما عن شبكة الطرقات في
أحياء المدينة وأخاديد المجاري والسيول سترى العجب العجاب، تبذير مليارات مقابل
مشاريع تفتقر للمواصفات، ما تلبث هذه المشاريع أن تبدأ إلا وتم نسفها بقرارات
ارتجالية غير مبنية على أسس هندسية ليتم ستهحداث غيرها، وهكذا وكله على حساب
المواطن الغلبان، وحين تحاول الاتصال بفيصل شعلان مديراشغال تعز لأكثر من مرة
لإيضاح حقيقة الصورة يتحجج بانشغاله بإشرافه على سير أعمال خارج المكتب، ليماسم
موعدا إلى ظهيرة ذات سبت ولم يف، وعندما تهاتفه للمرة الأخيرة لتذكيره بوعده، يرد
عليك مشغول عفوا أنا في مكان ما.. تعال باعطيك حق القات ؟!!، مثل هكذا لغة لا يمكن
تفسيرها إلا من زاوية واحدة ظاهرها غباء وباطنها تعتيم لفساد مدفوع الأجر، وهو ما
يدل على أن الرجل يلوذ بأقلام مأجورة، وخير مثال ما وصل إليه حال مشروع مجاري
عصيفرة سيء الصيت، كنموذج لمدينة قابعة في مياه بحر من الـ...... ؟ وكفى
.

يحدث أن
.....

وفي قلب المدينة حي
التحرير عالم متداخل ونسيج بشري متلاطم الأهداف والاتجاهات والآمال، أحلام كثيرة
تتربص بآلاف سكان المدينة ففي هذا الحي الشهير يمكن اختصار

حياة مدينة، أما إذا
سنحت لك فرصة لمضغ وريقات تكييفه وريقات القات، في مقر الحزتالاشتراكي في قلب
التحرير، يمكن أن تمنح نفسك سويعات راحة بعد تعب نهار هنا وهناك، ستجد محمد سعيد
الزريقي عضو لجنة محافظة يستقبل الزوار بلطف وخلق جم تتلفت يمينا ويسارا، سترى
صوراً كثيرة معلقة على جدران ديوان المقيل، للعمالقة ياسين سعيد نعمان، وعبد الفتاح
إسماعيل، وشهيد التسامح السياسي جار الله عمر، والشيخ المرحوم عبد الرحمن صبر،
وملامح أناس لا تعرفهم، هناك ستكتشف الأخ عبد حسان، الذي قضى في سجن تعز المركزي 8
سنوات بعد أن حكم ببراءته ورد الاعتبار له في قضية قتل وصفها دفاعا عن النفس، عبد
حسان يبدو في طرحه لكثير من القضايا الحاصلة داخل السجن شجاعا وهو يعترف بتأنيب
ضميره، بتجنيده للتجسس على أشهر سجين سياسي حينذاك، وهو منصور راجح، ولم يكتشف كما
قال أن منصور كان مظلوما.

تقودك الرحلة في آخر
المطاف إلى مصحة الأمراض النفسية والعصبية، هناك وفي بهو المستشفى ستلحظ جهودا
إنسانية بحتة.

الوزارة خارج نطاق
التغطية

ينبري الدكتور/ عادل
عبد السلام ملهي مدير المصحة - هناك بإلقاء اللوم على جهات كثيرة لعدم تعاونها مع
نزلاء المصحة، وبحسب الدكتور عادل فإن المصحة تستوعب 100 نزيل، وتعاني من مشاكل
الدعم المالي، بصورة متكافئة، ملهي طرح مشاكل المصحة بشفافية متناهية منتقدا عدم
وجود دور صحي مركزي تجاه نزلاء المصحة، الذي كما قال إنها خارج نطاق التغطية، كما
يشكو عدم تنسيق بين الجهات المختصة بخصوص الكثير من النزلاء حيث تستقبل المصحة
المرضى دون وجود أي معلومات عنهم أو تعاون من قبل النيابة العامة، ويشير إلى
ستهقصاء قضية المصابين بأمراض نفسية في الشوارع، وهناك تنصل من قبل جهات أمنية في
السجون التي توفد لنا مرضى نفسيين بدون معلومات دقيقة، كما يشيد ملهي بهذا الخصوص
بجهود محمد علي مبارك داعما أساسيا للمصحة مند أربع سنوات.