لاعتبارات قومية وسياسية وأمنية عدة، ورغم تأخر تحركها، بهدف الحفاظ على وحدة اليمن وأمنه واستقراره، تقود دول مجلس التعاون الخليجي حاليا تحركات بهدف إيجاد تسوية للأزمة السياسية الطاحنة في اليمن، تحظى بقبول جميع الفرقاء اليمنيين، لتحقيق انتقال آمن للسلطة في هذا البلد الذي تمزقه الأزمات والصراعات، أهمها الاحتجاجات الشعبية المطالبة بتنحي الرئيس «علي صالح»، وتصاعد نشاط ونفوذ تنظيم «القاعدة» في بعض مناطقه، وما يعانيه من جانب ما يوصف بـ «الحراك الجنوبي» والتمرد «الحوثي» في الشمال.
ولأن دول مجلس التعاون تدرك خطورة ما قد يترتب على الإخفاق في تسوية الأزمة اليمنية، طرحت هذه الدول مبادرة في محاولة من جانبها للتوصل إلى حل مقبول من كل أطراف الأزمة، وهي المبادرة التي مرت منذ بداية الحديث عنها في الثالث من ابريل الماضي بتطورات عدة استجابة لما صدر إزاءها من مواقف متباينة من مختلف القوى الفاعلة في الأزمة اليمنية، وذلك بنصها في نسختها الأولى غير الرسمية على «تنحي الرئيس علي صالح وانتقال السلطة»، بيد أنه إثر اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي الاستثنائي بالرياض في العاشر من أبريل الماضي، تم إعلان المبادرة بشكل رسمي؛ حيث نصت على نقل الرئيس «علي صالح» لصلاحياته إلى نائبه وتشكيل حكومة وحدة وطنية تقودها المعارضة، بجانب تأكيدها وقف كل أشكال الانتقام والمتابعة والملاحقة من خلال ضمانات وتعهدات تقدمها كل من الحكومة والمعارضة اليمنية، التي عارضتها وتمسكت بتنحي الرئيس اليمني الفوري، كما أشارت النسخة الأولى غير الرسمية.
وفي محاولة من جانب دول المجلس لإبقاء المبادرة الخليجية مطروحة على الطاولة، تم طرحها في نسختها المعدلة الأخيرة خلال زيارة الأمين العام للمجلس «عبداللطيف الزياني» للعاصمة اليمنية صنعاء، وذلك بنصها على نقل الرئيس صلاحياته لنائبه ثم تنحيه خلال شهر، كما تضمنت أيضًا تشكيل حكومة وحدة وطنية بنسبة 50% لحزب المؤتمر الشعبي الحاكم و40% لأحزاب اللقاء المشترك و10% للقوى السياسية الأخرى، على أن تتولى الحكومة المقترحة الإشراف على إجراء انتخابات رئاسية خلال شهرين من تنحي «صالح»، مع قيام البرلمان اليمني بسن قانون بعدم الملاحقة القضائية للرئيس وأسرته وأركان حكمه، وتقضي كذلك بوقف أنواع الإضرابات والعصيان المدني والتمرد العسكري كافة.
إن المبادرة الخليجية وما طرأ عليها من تعديلات تعبر عن مطلب المعارضة الرئيسي المتمثل في تنحي الرئيس «علي صالح»، وذلك بنصها على استقالة الرجل خلال شهر من تشكيل حكومة وحدة وطنية تشكل إطارًا مقبولاً لحل الأزمة السياسية الراهنة في اليمن. فهي تحظى بتأييد وقبول دوليين من جانب القوى الدولية الفاعلة، كالولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وروسيا والصين، وكذلك من جانب الاتحاد الأوروبي ومنظمة المؤتمر الإسلامي، فضلاً عن مناقشة مجلس الأمن للأزمة اليمنية بهدف منح غطاء دولي للمبادرة الخليجية، وهي القوى التي شددت على ضرورة التحرك لنقل السلطة والاستجابة لتطلعات الشعب.
وإذا كان البعض قد ذهب إلى أن دول مجلس التعاون استجابت لضغوط ومطالب الرئيس اليمني فيما أدخلته على مبادرتها من تعديلات، إلا أن القراءة المتأنية للمبادرة في نسخها الثلاث تشير إلى أن ما طرأ على بنودها من تطور نوعي يصب في اتجاه تحقيق ما يصبو إليه الشعب اليمني، وذلك بنصها في نسختها الأخيرة على قيام الرئيس «علي صالح» بتقديم استقالته بعد قيام المعارضة بتشكيل حكومة وحدة وطنية.
والشاهد على ذلك تباين مواقف طرفي الأزمة الرئيسيين إزاء النسخة الأخيرة للمبادرة الخليجية، فـ«صالح» بعد أن أبدى ترحيبه بها، أكد عدم تخليه عن منصبه وعدم تسليمه السلطة إلا لخليفته الذي سيتم اختياره من خلال الانتخابات، معتبرًا الدعوة إلى تنحيه انقلابًا على الشرعية الدستورية. وكذلك الحال بالنسبة إلى قوى المعارضة، فرغم ترحيبها بالنسخة الأخيرة للمبادرة، فإنها اعترضت على تشكيل حكومة وحدة وطنية، متهمة الرئيس «صالح» بالتخبط بعد تراجعه عن ترحيبه بالمبادرة ومعاودته التمسك بالانتخابات كآلية وحيدة لانتقال السلطة.
ورغم أن دول مجلس التعاون الخليجي كانت على وشك تتويج جهودها لإنهاء الأزمة اليمنية وضمان الانتقال السلمي للسلطة بالنجاح، فإن هذه الجهود تعثرت في اللحظات الأخيرة على خلفية رفض «علي صالح» توقيعها بصفته رئيسا للجمهورية، الأمر الذي اعتبرته قوى المعارضة بمثابة محاولة جديدة للمراوغة، ناهيك عن تلويح المعارضة ذاتها بعدم توقيع اتفاق الانتقال السلمي للسلطة، ودعوتها دول مجلس التعاون إلى رفع الغطاء عنه، والضغط عليه.
ومن دون شك، فإن عدم توقيع الاتفاق يثير الدهشة والاستغراب حول جدية الأطراف اليمنية في التعاطي مع المبادرة الخليجية الأخيرة لإيجاد مخرج للأزمة. ومما يؤسف له أن تلك المواقف جاءت في وقت أحوج ما يكون اليمن فيه إلى تحكيم العقل بدلاً من تصفية حسابات، لا تأتي نتائجها عادة إلا على حساب دم الأبرياء.
ونظرًا إلى كون المبادرة الخليجية بمثابة خريطة طريق لحل الأزمة اليمنية، في ضوء ما تضمنته من آليات زمنية وشروط واضحة تدفع باتجاه نجاحها، فإن ذلك يجعل دول مجلس التعاون بمنأى عن تحمل أية مسؤولية بشأن ما آل إليه مصير المبادرة التي طرحتها لتسوية الأزمة، ذلك أن تلك المبادرة ألقت بالكرة في الملعب اليمني، وجعلت من مسألة قبولها أو رفضها ترتبط بشكل رئيسي بمواقف اللاعبين الرئيسيين في هذه الأزمة، ومع ذلك أصرت دول المجلس على التمسك بمبادرتها للحظة الأخيرة، بقيامها بعرض إدخال تعديلات جديدة عليها تشمل توقيع 30 ممثلاً من الحزب الحاكم والمعارضة السياسية في صنعاء عليها، بدلاً من أن يوقعها «صالح» وزعيم المعارضة فقط، فضلاً عن تصديق الرئيس «صالح» ورئيس دولة الإمارات الشيخ «خليفة بن زايد آل نهيان» بصفته رئيس الدورة الحالية لمجلس التعاون الخليجي على المبادرة في صنعاء كخطوة تالية، وذلك بهدف الوصول إلى النهاية المأمولة للأزمة في اليمن.
ومع ذلك، ورغم تلك التحركات الخليجية، يمكن الإشارة إلى ملاحظات وحقائق عدة مهمة، أولاها: تضارب وتناقض مواقف الرئيس «علي صالح» بشأن المبادرة الخليجية، ولجوؤه إلى تبني استراتيجية تقوم على المراوغة بهدف كسب مزيد من الوقت للاستمرار في السلطة، فهو تارة يبدي ترحيبه بالمبادرة، وتارة أخرى يبدي تمسكه بالانتخابات والدستور كآلية لانتقال السلطة، ما يعني أنه لن يتنحى قبل حلول موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2013، كما أنه من المعروف عنه تبنيه مواقف متناقضة وغير واضحة.
ثانيتها: إصرار المعارضة اليمنية على مواقفها وعدم إبدائها مرونة كافية تشي بقبولها للمبادرة الخليجية، ووضعها العديد من الشروط التي تجعل من الصعب وضع المبادرة الخليجية موضع التطبيق الفعلي، كاشتراطها أن تبدأ المبادرة باستقالة «صالح» من دون شروط، ورفضها إدخال أي تعديل على المبادرة، موضحة أنها على استعداد لتوقيع المبادرة إذا قبل الرئيس توقيعها فضلاً عما كشفت عنه الأزمة الراهنة من عجز المعارضة عن التوصل إلى موقف موحد، بحيث ظلت تحكمها وتحركها الأهداف الخاصة لكل فريق منها.
ثالثتها: وصول الأزمة إلى طريق مسدود في ظل إصرار كل أطرافها على مواقفها، بإصرار الرئيس «علي صالح» على التمسك بالسلطة حتى نهاية ولايته عام 2013، وكذلك رفضه جميع المبادرات التي طرحتها المعارضة لتسوية الأزمة، وعلى رأسها تنحيه عن السلطة، ناهيك عن صعوبة موقف «صالح» جراء تخلي حلفائه عن مساندته، على مختلف المستويات؛ حيث انشق عنه عدد كبير من قيادات الحزب الحاكم والوزراء ونواب البرلمان والدبلوماسيين، فضلاً عن انشقاقات المؤسسة العسكرية.
ورغم تلك المآخذ على الجانب اليمني، فإن ذلك لا يعني شمولية المبادرة الخليجية، وأنه لا يشوبها بعض السلبيات، من قبيل: عدم نصها صراحة في نسختها الأخيرة على تنحي «علي صالح»، وإن كانت قد أشارت إلى ذلك ضمنًا بنصها على استقالته، فضلا عن منحه الحصانة من الملاحقة والمساءلة القانونيتين. يضاف إلى ذلك تركيزها في الجانب السياسي، وهو ما يمكن تفسيره على اعتبار أن الأزمة اليمنية هي أزمة سياسية بامتياز، ومع ذلك فقد تجاهلت المبادرة إلى حد ما تقديم الدعم الاقتصادي لليمن في مواجهة ما يحدث فيه من حركات احتجاجية، على غرار الدعم الذي قدمته دول المجلس لكل من البحرين وعمان، في ظل ما يعانيه اليمن من أزمات اقتصادية، كانت أحد دوافع الاحتجاجات التي يشهدها.
خلاصة القول: رغم ما يحيط بالمبادرة الخليجية لحل الأزمة اليمنية من شكوك بشأن إمكانية تطبيقها، وبالتالي تسوية الصراع الدائر حاليا على السلطة في اليمن، في ظل ما صدر عن الأطراف الرئيسية للأزمة من مواقف، فإن المأمول من جميع الفرقاء اليمنيين وضع مصلحة بلادهم فوق أي اعتبارات وحسابات أخرى، بقبول المبادرة باعتبارها المخرج الوحيد من المأزق الراهن الذي يعانيه اليمن، ومنعًا لانزلاق الأوضاع في هذا البلد إلى مزيد من التصعيد.