تبدو ساحة ميدان السبعين الواقعة بالقرب من مقر إقامة الرئيس صالح منطقة مستقلّة خارج جغرافيا الجمهورية اليمنية، محاطةً بقوات الحرس الجمهوري والحرس الخاص التابعة لنجله أحمد وابن شقيقه طارق عبد الله صالح. وهي منطقة صارت حدودها منطلقاً لتحركات صالح الذي بات يحمل لقب «عمدة السبعين». فالرئيس اليمني لم يعد يخرج من القصر الرئاسي منذ نحو أكثر من أسبوعين سوى إلى ميدان السبعين؛ يقول كلمته ويعود.
سيناريو تكرّر أكثر من مرة منذ الجمعة قبل الماضية، وهو يفعلها خصوصاً بعد إعلان أحزاب اللقاء المشترك عن «جمعة الزحف»، التي لم تحصل. وهو الموعد، الذي أثار لغطاً كبيراً حوله وفزعاً في أروقة القصر الرئاسي. وبحسب مصادر إعلامية مطلعة، لم يخرج اختراع المسيرات المؤيدة للرئيس صالح للتطبيق إلا لتقف هذه المسيرات حاجزاً بشرياً يمكنه منع أي تدفق محتمل للمحتجّين قد يتحرك في أي لحظة باتجاه القصر الرئاسي بمنطقة السبعين، وهي خطة قائمة على فكرة ضرب الشارع بالشارع.
ومن خلال نظرة عامة على الحشود الموجودة في الميدان، يُلاحظ أن غالبية الموجودين تجاوزوا عتبة الشباب. ملاحظة قد تؤدي إلى الأرضية التي على أساسها أطلق اسم «الثورة الشبابية» على الحشد المقابل الموجود في «ساحة التغيير» على بعد كيلومترات قليلة من ميدان السبعين. لكن هذا الحشد المكوّن ممّن تخطّوا سن الشباب، هو ما استطاع أعوان صالح حشده وجلبه من مختلف المناطق اليمنية، وهو ما يفسر أيضاً ضخامة الكتلة البشرية الحاضرة التي صُرف عليها كثيراً من خزينة الدولة، في مبالغ تراوحت بين 250 و350 دولاراً للشخص الواحد.
مع هذا يبدو الارتباك واضحاً في تنظيم الحشود. واللهفة بادية على وجوه الحاضرين، لا ترقباً لخطاب الرئيس المهم، بل رغبةً في أن ينتهوا من هذا الأمر سريعاً بما يمكّنهم العودة باتجاه الأماكن التي أتوا منها، وبالتالي تخلصهم من تلك اللافتات التي يبدو أنها أثقلت أكتافهم.
ووسط هذه الأجواء، تعلو هتافات تسعى إلى الرد على العبارات التي تتردّد في الساحات الأخرى. فيمكن أن تسمع «يا الله يا الله... احفظ علي عبد الله»، في ردّ على عبارة «يا الله يا الله أسقط علي عبد الله»، التي تتردّد في مختلف الساحات اليمنية. كذلك تأتي عبارة «الشعب يريد علي عبد الله صالح»، ردّاً على عبارة «الشعب يريد إسقاط النظام».
ومن خلال هذه العبارات والصور المرفوعة يبدو حضور علي عبد الله صالح طاغياً وكأنه الهدف من كل هذا الحاصل. وينسحب اليمن نظاماً ودولةً، لتبدو مهمة الحفاظ على الرئيس وحده مهمةً أولى ووحيدة، وتبدو البلاد مختزلَة في شخصه.
كذلك يبدو الحشد نفسه منتظراً لحظةً واحدة هي لحظة قدوم الرئيس، كي يلقي عليهم خطابه قبل أن يعود إلى مقره الرئاسي. وبالفعل أتى إليهم سريعاً ليلقي كلمة على عجل. لم يأخذ وقتاً طويلاً كما هي عادته، كأنما زهد في الكلام، بعدما اكتشف حجم الكوارث التي يرتكبها بعد كل خطاب له، مع ملاحظة أنه قضى نحو ثلاثة أيام لم يُلق خلالها أي خطاب، وهو الذي عوّد شعبه خلال الشهر الأخير بمعدل خطاب واحد في اليوم يعاد بثّه أكثر من مرة عبر وسائل الإعلام الرسمية.
انطلق الخطاب بتحيّة «الحشد الجماهيري»، فعرف المحتشدون مما وصلهم عبر مكبرات الصوت أنه الرئيس صالح، حيث إن بعد المسافة التي تفصل عن المنصة الرئيسية لا يتيح إمكانية التأكد من وجوده فعلاً في المكان.
ولم يُطل صالح في الكلام، شكَرَ الحاضرين «الإخوة والأخوات الموجودين في ميدان السبعين والذين في مساكنهم وفي محافظاتهم»، مؤكداً امتنانه الشديد لهذا الحشد في ميدان السبعين، إضافة إلى «المشاعر الكامنة في قلوب اليمنيين، في الداخل والخارج، الموجودين في العاصمة والمرابطين في المحافظات على هذه المشاعر الطيبة والفياضة».
وبعدما توجّه إلى المحتشدين بالقول «أتعهد لكم أيها الجماهير أني سأفدي هذا الشعب بالروح بالدم، سأضحي، إنني سأضحي بالدم والغالي والنفيس من أجل جماهير شعبنا اليمني العظيم»، انتقل صالح بعدها فجأة إلى مربع آخر قائلاً «لن أردّ على أحد»، قبل أن يعود ويكرر في الخطاب مقولة «ليس عندي رد على أي شخص».
لم يكلف الرئيس اليمني نفسه بتقديم مزيد من الشرح، معتقداً أن كلامه يصل دونما حاجة لشرحه أو تفصيله، كأنما يبعث برسائل مشفّرة وعلى المعنيّين بها أن يفهموها. لكنه مع ذلك، قال مختتماً «أتمنى أن يكون خطابهم حصيف (حصيفاً) ومسؤول (مسؤولاً) يخاطبون الجماهير دون أن يتلفظوا بألفاظ غير مسؤولة»، قبل أن يذهب عائداً إلى قصره.
وهي المرة الأولى في تاريخ حكم صالح التي يلقي فيها خطاباً بهذا الإيجاز، ففي العادة يستهلك وقتاً أطول من هذا بكثير. لكن بعد إعادة مشاهدة خطابه على التلفزيون، ظهر صالح بملامح منزعجة للغاية، وأن كلماته القليلة التي ألقاها كانت موجهة إلى أشخاص بعينهم، كان يعتقد أنهم آخر من سيتخلى عنه ليصبحوا فجأة من أوائل من قرر تركه، على رأسهم أبناء الشيخ عبد الله حسين الأحمر صادق وحسين اللذان قالا في حقه كلاماً قاسياً مفككين فترة الـ32 عاماً التي قضاها في الرئاسة، بدعم من والدهم الراحل ومن خلفه دعم ونفوذ المال السعودي.
من هنا يظهر أن إحجام الرئيس صالح عن الإسهاب في الكلام كان ناتجاً من كمّ الحزن الذي صار يلف حياته بسبب التخلّي الكبير، الذي وقع عليه، وكان آخر من تركه زوج ابنته الشاب يحيى القاضي الذي نزل إلى «ساحة التغيير» يوم الاثنين الماضي معلناً انضمامه لثورة الشباب، فيما حاول على ما يبدو رئيس الحكومة المقالة، علي محمد مجور، استرضاء الرئيس اليمني. وألقى كلمة أمام الحشد الموالي لصالح أكد فيها أن «الموالين للرئيس اليمني يبعثون برسالة من أغلبية اليمنيين إلى المعارضة والعالم بأنهم يؤيدون الأمة ويؤيدون صالح»، رغم تقلص المساحة التي صار «فخامته» يسيطر عليها، بعدما كان حتى القريب يُفاخر بأنه صاحب إنجاز توحيد الأرض اليمنية من صعدة شمالاً إلى المهرة جنوباً.
المصدر أون لاين