معركة أدبية
بين أبي فراس الحمداني وأبي الطيب المتنبي
يقول ابن رشيق العيد : و أما أبو الطيب فلم يذكر معه إلا أبو فراس ولولا مكانه من السلطان لأخفاه !! .
وكان في المتنبي اعتداد بالنفس وشموخ جعله يتعالى على الآخرين مما دفعهم إلى الحقد عليه وتدبير المؤمرات له وتلمس العيوب و السقطات .. !! أما أبو فراس فهو الناشئ في ظل نعمة وفي بيت الملك وقرابته من سيف الدولة وشعره الرقيق و أخلاقه الرفيعة تؤهله ليكون في منزلة عالية ومكانة رفيعة .
وكان سيف الدولة يعجب جدا بمحاسن أبي فراس ويميزه بالإكرام على سائر قومه ويسصحبه في غزواته ويستخلفه في أعماله ، وكان صراع على زعامة الشعر بين المتنبي و أبي فراس .
لقد كان أبو فراس شاعر فحلا ممتازا و كان المتنبي يتطلع إلى حمل(( لواء الزعامة الأدبية في عصره )) و اختلفت نظرة كل منهما إلى صاحبه ، كان أبو فراس يرى المتنبي رجلا من السوقة رفعه شعره درجات فوق ما يستحق .
وكان المتنبي يرى في أبي فراس أميرا ذكيا رفعت الإمارة من شعره درجات فوق ما يستحق و أكسبته شهرة في الأدب لم يكن يصل إليها لو لا قرابته ومكانته من سيف الدولة فكان ينطبق عليهما قول ذي الأصبع العدواني فخالني دونه بل خلته دوني
وبدت الغيرة بينهما وكثر خصوم المتنبي وحساده فاستعان عليهم بسيف الدولة في بعض قصائده حيث قال :أزل حسد الحساد عني بكبتهم °° ° فأنت الذي صيرتهم لي حسدا
ولقد صحت فراسة أبي فراس في المتنبي منذ أنشد سيف الدولة قصيدته الميمية بعد أن أجلى الروم عن (( حصن برزويه )) وكان أبو فراس ابن عم سيف الدولة يشاركه الأعجاب حتى وصل إلى قوله :عجبت له لما رأيت صفاته °° ° بلا واصف والشعر تهذي طما طمه
عندئذ علم أبو فراس أن حربا أدبيه بجانب حرب الروم ستنشب نيرانها بحلب و أن (( شعراء الشام )) لن يلقوا أقلامهم أمام هذا الشاعر المتحدي !!.. المعـــركـــة
كان سيف الدولة إذا تأخر المتنبي عن مدحه شق ذلك عليه و أحضر من لاخير فيه ! وذات يوم قال أبو فراس لسيف الدولة إن هذا المتشدق كثير الإدلال عليك و أنت تعطيه كل سنة (( ثلاثة آلاف دينار )) عن ثلاثة قصائد ويمكن أن تفرق مئتي دينار على عشرين شاعرا يأتون بما هو خير من شعره .
فتأثر سيف الدولة مما سمعه من ابي فراس وكان المتنبي غائبا فبلغته القصة فدخل على سيف الدولة و أنشد أبياتافأطرق سيف الدولة ولم ينظر إليه كعادته ! وحضر أبو فراس وجماعة من الشعراء فبالغوا في الوقيعة في حق المتنبي و انقطع أبو الطيب بعد ذلك ونظم القصيدة التي أولها : واحر قلباه ممن قلبه شبم
ثم حضر الى مجلس سيف الدولة و أنشدها بين يديه على مرأى ومسمع من الشعراء و أبي فراس وجعل يتظلم فيها من التقصير في حقه بقوله : مالي أكتم حبا قد برى جسدي °° ° وتدعي حب سيف الدولة الأمم
إلى أن قال :
قد زرته وسيوف الهند مغمدة °° ° وقد نظرت إليه و السيوف دم
فهم جماعة بالتعدي عليه في حضرة سيف الدولة لما رأوا إدلاله و إعراض سيف الدولة عنه فلما وصل في إنشاده إلى قوله :
يا أعدل الناس إلا في معاملتي °° ° فيك الخصام وأنت الخصم و الحكم
قال أبو فراس : قد مسخت قول (( دعبل )) : ولست أرجو انتصافا منك ما ذرفت °° ° عيني دموعا و أنت الخصم و الحكم
فقال المتنبي :
أعيذها نظرات منك صادقه °° ° أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
فعلم أبو فراس أن المتنبي يعنيه فقال : ومن أنت (( يا دعي كندة )) حتى تأخذ أعراض الأمير في مجلسه ؟؟ فاستمر المتنبي في إنشاده ولم يرد عليه الى أن قال : سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا °° ° بأنني خير من تسعى به قدم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي °° ° و أسمعت كلماتي من به صمم
فأزداد أبو فراس غيظا وقال :وقد سرقت هذا من (( عمر و بن عروة بن العبد )) حيث يقول : أوضحت من طرق الأداب ما اشتكلت °° ° دهرا و أظهرت إغرابا و إبدعا
حتى فتحت بإعجاز خصصت به °° ° للعمي و الصم أبصارا و أسماعا
وظل المتنبي يواصل إنشاده غير عابئ بما يقال حتى أنتهى إلى قوله : الخيل و الليل و البيداء تعرفني °° ° و السيف و الرمح و القرطاس و القلم
فقال أبو فراس : وماذا أبقيت للأمير ؟؟ إذ وصفت نفسك بكل هذا ؟ تمدح الامير بما سرقته من كلام غيرك و تأخذ جوائز الأمير ؟؟ !! أما سرقت هذا من (( ابن العريان )) حيث يقول : أنا ابن الفلا والطعن و الضرب و السرى وجرد المذاكي و القنا و القواضب فقال المتنبي :
وما انتفاع اخي الدنيا بناظره °° ° إذا استوت عنده الأنوار و الظلم
فقال أبو فراس : وهذا سرقته من قول (( معقل العجلي )) :
إذا لم أميز بين نور وظلمة °° ° بعيني فالعينان زور و باطل
وقول (( ابن مرة المكي )) :
إذا المرء لم يدرك بعينيه ما يرى °° ° فما الفرق بين العمي و البصراء
وعند ذلك ضجر سيف الدولة من كثرة مناقشة هذه القصيدة وكثرة دعاويه فيها فضرب المتنبي بالدواة التي بين يديه فقال المتنبي :
إن كان سركم ما قال حاسدنا °° ° فما لجرح إذا أرضاكم ألم
فقال أبو فراس : وهذا - أيضا - أخذته من قول بشار بن برد :
إذا رضيتم بأن نجفى وسركم °° °قول الوشاة فلا شكوى ولا ضرر
ومثله قول ابن الرومي :
إذا الفجائع أكسبتني °° ° رضاك فما الدهر بالفاجع
ولكن سيف الدولة أعجبه بيت المتنبي الأخير فلم يلتفت إلى قول (( أبي فراس )) ورضي عن المتنبي و أدناه إليه وقبل رأسه و أجازه بألف دينار ثم أردفها بأخرى ...
فمن يا تُرى يستحق زعامة الأدب في عصره ..؟؟؟ ….منقـــــول