ثالوث مؤلم كان من نصيب قرية حجرمين .. دموع .. دماء .. أمطار غزيرة إلى حد الكارثة
هكذا بدأت السحب كعادتها في شن المطر .. صبت الماء صباً .. كأفواه القِرب ... بكثافةٍ مخيفة.. تسللت القطرات
إلى الفجوات بين الصخور فأذنت لها بالسقوط
إنزلاقٌ صخري كان لها نصيب الأسد في حصد الأرواح
لم يدرك الشهيد / محرم سلطان الجلال ، والشهيد / إيهاب علي حسان الجلال (نحسبهم شهداء والله حسيبهم ولا نزكي على الله أحد) لم يدركا حتمية المقادير الإلهية ..
لم يعرفا أنهما لن ينظرا إلى قطرة غيث بعد اليوم ، ولن يجنَّ عليهما الليل وهما يبتسمان كعادتهما
كان القضاء والقدر أسرع إليهما من البرق إختارهما دون سواهما ...
المكان الذي رحل منه الشهيدان هو ذاته الذي نجا فيه فاروق محمد حسان ـ ابن عم إيهاب ـ وهلال عبدالله . فسبحان الله
لم يمنح حاصد الأرواح الشهيدين فرصةً للتمتع بجمال الربيع ولم يعطهما فرصةً للنجاة لأن الأمر صادرٌ من الله ...والله جل جلاله لا راد لقضائه .
محرم الجلال رحل مساء الجمعة مخلفاً وراءه ثمانية أبناء أكبرهم في التاسعة عشرة من عمره , رحل وخلَّف وراءه زوجة ثكلى تئن تحت وطأة دموعها وأطفالاً بأعمار الزهور .
ورحل إيهاب الجلال ـــــ هو الآخر أيضاً ــــ ولم يمنحه القدر فرصةً لتأدية امتحان إتمام الشهادة الأساسية .
إيهاب الجلال ذو الربيع الخامس عشر كم يحسده الناس على إستقامته وخلقه النبيل رحل إلى الله في يوم جمعة كأنما كان يتمناها .
رحل الإثنان عليهما سحائب الرحمة عدد قطرات المطر التي روت تراب حجرمين
رحل الشهيدان ضيفين عزيزين على الله ـ اللهم أحسن قِراهما ـ فباتت القرية مغرقةً بالدموع قد جرت مع السيول الجارفة .
كارثة لم نعهد لها مثيلاً الدهر ... مصيبة بكل المقاييس ... نكبة بكامل المواصفات .
لم تغرب شمس الجمعة إلا والقلوب تقطر دماً , والعيون تشن سحائب الدمع .
لم تغرب شمس الجمعة إلا والأبدان ترتجف وجداً على فراق اثنين من أبناء القرية .
هكذا غابت الشمس , فغابت معها أرواح الشهيدين ...
وهكذا جنَّ الليل على قرية حجرمين , والحزن قد خيَّم عليها
باتت تلتحف الأسى , وتقتات الألم .
جنَّ الليل ولم يدَع قلباً إلا اكتنفه الندم , ولم يدَع عيناً إلا ترقرقت بالدموع .
أيُّ مساءٍ هذا الذي استقبله الناس يوم الجمعة ؟ وأيُّ ليلٍ هذا الذي جنَّ بعد الكارثة .؟
أيُّّ لسانٍ تصف ما حدث ؟ وأيُّ قلبٍ يحتمل الجزع ؟
صرخات الأنين عَلَت من كل بيت , وتوزعت الدموع في كل منزل .
أصابت الحيرة كلَّ إنسان , وعمَّت الدهشة كل نفس .
يا للكارثة ... يا للمصيبة ... يا للطف الخفي ..
كيف تحولت بقالةٌ كبيرة إلى أثرٍ بعد عين , ؟ وكيف صارت أبدان الشهيدين حديث الناس ؟
لا بل صارت حديث الدموع ., ونبأ الألم .
آبار الشرب دُمٍّرت تماماً فجفت ينابيع المياه فيها واستبدلت بدموع العيون التي ذرفت كالسيول .
يسأل السائل : ماذا حدث ؟ ما الذي جرى ؟ لا أحد يجيب . الأفواه مخرسة فلا تنطق الشفاه , وحدها الدموع تجيب , والحزن هو الذي يرد .
أشجار البن لم تعد تحتوي الكنوز , وأشجار المانجو لم تعد تهدي أعطياتها , وأزهار الربيع لم تعد تعبق بالشذى الفواح .
فالسيول قد قضت على الكنوز وعلى الهدايا , وسحقت شذى الزهر , وأخمدت عطر الورود .
آثار الكارثة لم ولن تخفيها تقلبات الأيام , لن تمحُ آثارها من أمام العيون , ولا من وسط القلوب .
فالقلوب التي تكتوي بنار الحزن وجحيم الألم لا يخمد سعيرها حتى ترحل هي بمن يحتويها .
والأمطار قد نقشت في الذاكرة ذكرياتها السوداء على أهل القرية .
والآن لا زال أصحاب القرية في كابوسٍ طامي فكلما زمجرت الرعود ارتجفت القلوب وأصاب الهلع النساء والأطفال , الشيوخ والشباب
. لم يدع أحداً إلا رأيت الموت يتسلل إلى جسمه
محرم وإيهاب كانا وديعتين فعادتا , وكانا عاريتين فعادتا إلى معيرهما الحقيقي .
عليهما الرحمة والرضوان
وأسأل الله أن لا يري القرية مكروهاً بعد اليوم إنه حميد مجيد
بشير إبراهيم الأمير
السبت
15/5/2010م .