2 - دولتا المقدم والنقيب!يقدِّم "عالم سنان" فصلاً مثيراً، في رواية لما تكتب خاتمتها بعد، في علاقة القبيلة بالدولة في شمال اليمن، وفي دولة الوحدة من بعد. في هذا الفصل يظهر دوران من أدوار هذه العلاقة: الأول يتخذ نمط الدولة داخل الدولة، والآخر يدنو من نمط الدولة خارج الدولة. والصراع يدور بين إرادتين من أجل دورين آخرين: أرادها المقدم إبراهيم
الحمدي دولة مواطنين وأرادها خصومه دولة نقباء ومقدمين. وتمثلات هذه الإرادة الأخيرة تبرز جلية صارخة، وأحياناً فضائحية، في الجزء الثالث من مذكرات الشيخ سنان، الذي يُزوٍّد الباحثين والقراء، بخاصة من الجيل الذي لم يعش تلك الفترة، بأدوات إضافية عالية القيمة والكفاءة، لقراءة الماضي واستكناه الحاضر والإمساك بالمستقبل، أو على الأقل ملامسته!
بعيداً عن الملاحظات الفنية والأحكام القيمية والتحيزات السياسية والايديولوجية، يكون من الانصاف إسداء الشكر لصاحب المذكرات الذي أقدم حيث أحجم عشرات غيره، متوغلاً في منطقة المحرم والمكبوت في الخطاب السياسي، وما قد يجره ذلك عليه من ضغائن وعداوات.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]<<<
يبدأ الشيخ سنان قصته مع حركة يونيو بإماطة اللثام عن تجمع سري نشأ في خريف الجمهورية الثانية، ضم إليه، ابراهيم الحمدي ومحمد سالم باسندوه وحسين المسوري والشيخ احمد المطري والقاضي عبدالله الحجري وأحمد دهمش وعبدالله الأصنج. يسكت الشيخ, وغالباً ما يسكت بعد أن يبدأ في عديد الأماكن من هذه المذكرات، عن الآخر الذي استهدفه هذا التجمع وعن المآل الذي صار إليه، مكتفياً بالإشارة إلى طابعه السري الذي اقتضى أسماءً كودية (حركية) واجتماعات تجري في الخفاء في واحدة من الدويلات المزدهرة داخل دولة القاضي الارياني.
يلفت العم سنان إلى علامات وإشارات على طموح الحمدي ومناوراته البارعة التي مكنته من إخفاء دوافعه على شتيت الأطراف التي كانت تتحفز للانقضاض على القاضي الارياني الزاهد في الحكم والبرِم من ابتزاز مراكز القوى المشيخية وتحرشاتها.
استطاع الحمدي قبيل شهر من وثوب الجيش إلى الحكم أن يغدو القطب الذي يجذب الجميع إلى مجاله، وهو تمكن من استمالة القاضي الإرياني في معركة تعظيم الفرص التي خاضها ضد العقيد محمد الارياني القائد العام للقوات المسلحة والعقيد حسين المسوري رئيس هيئة الأركان. وقد أمكن له في غياب الاثنين خارج البلاد، الترتيب, بمساندة من "العم سنان"، لتسليم السلطة إلى الجيش، مستبقاً انقلاباً آخر يرتب له الشيخ الأحمر والمسوري، طبق تقارير وتحليلات صحفية غداة الحركة.
استقال الارياني واضطر إلى الاستقالة معه أربعة شيوخ يمسكون بأسباب القوة هم: الشيخ الأحمر رئيس مجلس الشورى, والشيخ عبدالله أحمد المطري عضو المجلس والشيخ نعمان قائد بن راجح والشيخ سنان محافظ الحديدة (أو حاكمها في لغة معلقي الصحافة العربية سنتذاك).
عند هذه اللحظة الفاصلة يفضل صاحبنا الذهب إذ يمتنع عن الافصاح عن صاحب فكرة استقالة الشيوخ الأربعة ودواعيها، الاستقالة التي وصفها البردوني في كتابيه "اليمن الجمهوري" و"الثقافة والثورة في اليمن" بأنها أغرب استقالة في التاريخ اليمني. وهو قدم تفسيراً مغايراً للرواية المعممة عن حيثياتها، مستنداً على الأرجح إلى شهادات شفهية، فالرئيس الارياني اشترط تقديم استقالة جماعية إلى الحمدي باعتبار أن الحكم كان جماعياً منذ 5 نوفمبر 1967، مضيفاً أن الإرياني عندما عرف دوافع طُلاَّب استقالته أقالهم معه "حتى امتد أثرها عليهم إلى الآن (عام 1991)، إذ فقدت المشيخات أكثر أبهتها من ذلك الحين".
في 13 يونيو ذهب الحمدي والعم سنان إلى القصر الجمهوري لمقابلة الرئيس الارياني الذي كان مطالباً بالاستقالة من الشيخ الأحمر، ومهدداً من قبائل حاشد باجتياح صنعاء. أبلغ الارياني ضيفيه" لا أرضى أن يسفك دم من أجلي... وهذه استقالتي".
قال له الحمدي -طبق رواية الشيخ سنان: "نحن جنودك(...) وتحت أوامرك، ولا نريد أن نفرض عليك أي شيء"، وقال له سنان: "هذه استقالتي أرجو أن تعمِّدها قبل استقالتك". عمَّد القاضي استقالة الشيخ التي أذيعت قبل استقالته، وكلَّف الحمدي بأعمال الرئاسة. ذهب الشيخ سنان رفقة الشيخ المطري إلى "خمر" لتسليم استقالة القاضي إلى الشيخ عبدالله الأحمر الذي أيَّد تكليف (العقيد) ابراهيم الحمدي القيام بأعمال الرئاسة. قدم الشيخ عبدالله الأحمر بدوره استقالته إلى العقيد الحمدي وقادة الجيش، وجاء في خطاب استقالته ما يشي بانزعاجه من صيغة حل الأزمة السياسية التي كانت تطبق على الوضع السياسي، فقد كتب: وأنا من جانبي أقدم إليكم استقالتي من (رئاسة) مجلس الشورى وذلك إخلاصاً مني لتجنيب البلاد الأزمات، ولكي لا يقال إننا هواة مناصب أو مختلفين على المناصب، ونحملكم مسؤولية الحفاظ على الأمن والاستقرار في البلاد.
بعدسة مفرقة، لا مجمعة، تتناول مذكرات الشيخ سنان لحظة وثوب الجيش إلى الحكم. فإلى غياب الإحكام في عرض الوقائع في سياقاتها، لا تنضبط الصيغ درءاً للتأويل، وتُستبطن أحداث وقت لزوم ما يلزم من إفصاح عنها.
ما تكاد تخفيه المذكرات هو انقسام رجالات حركة نوفمبر 1967 على عديد المستويات أظهرها توزعهم على تيارين: محافظ، مرموزاً إليه بالشيخ عبدالله الأحمر والقاضي الحجري والعقيد حسين المسوري؛ ومعتدل يمثله القاضي عبدالرحمن الارياني وبيت أبو لحوم. بين هذين التيارين يتأرجح موقع ابراهيم الحمدي في "عالم سنان"، لكن الحمدي منظوراً إليه من قوى اليسار كان منمَّطاً في صورة "الذراع العسكري" للجناح الاقطاعي القبلي، واستمرت هذه الصورة، المريحة لمصمميها، مهيمنة على الخطاب الاعلامي لقوى اليسار حتى ربيع 1975.
الصراع بين دولة المقدم ابراهيم الحمدي ودولة النقباء نشب في اليوم التالي لحركة التصحيح، عندما أصدر الأول عدداً من القرارات أهمها تجميد مجلس الشورى وتعليق العمل بالدستور وحل الاتحاد اليمني (الأداة السياسية القعيدة للنوفمبريين)، مبلغاً العم سنان قبل إعلانها:" إذا أردتموني في الحكم فلا تجعلوني مسخرة، واتركوني أتخذ قراراتي". بعدها بأربعة أيام أقال العقيد محمد الارياني وحسين المسوري من موقعيهما، وعين الأول سفيراً في باريس والثاني سفيراً في القاهرة. وماهي إلا أيام حتى خرج الشيخ سنان من العاصمة مغاضباً لأن الحمدي لم يأخذ بتصوراته حيال تشكيل الحكومة الأولى للحركة التي رأسها محسن العيني (صهر الشيخ والشخصية السياسية المرموقة عهدذاك).
في خلافه مع الرئيس الحمدي يلاحق العم سنان الذهب فيسكت عن التفاصيل، وفي خلاف الحمدي مع الشيخ الأحمر يقنع بالفضة مستغرقاً بالتفاصيل.
بعد ثلاثة شهور من رئاسة الحمدي طلب الشيخ سنان السماح له بإصدار صحيفة، فأشر الحمدي على طلبه أنْ "لا مانع على أساس الالتزام بالسياسة الاعلامية للدولة". يقرر العودة إلى نهم بسبب مكالمة هاتفية مع الحمدي أزعجته (لماذا؟ ليس من شأن القارئ أن يعرف!)، لكن الحمدي الحريص على مودة العم سنان يرسل إليه بعد يومين موضحاً أن حماسته في مخاطبته نابعة من شعوره بالمسؤولية، ثم إنه يلاطفه ببيتي شعر تذيبان الحجر:
فليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر
وبيني وبين العالمين خراب
العم سنان لا يرضى عن "الولد ابراهيم" فيغادر إلى القاهرة نهاية 1974، غير راغب في العودة (وطبق رواية الدكتور محمد علي الشهاري في كتابه " رسائلي إلى الشهيد الحمدي" أبلغ سنان سياسيين ومثقفين لاجئين هناك أن الحمدي عازم على فرض مشروعه السياسي، وأن الشيخ عبدالله الأحمر سيكون التالي في الخروج بعده من السلطة).
أعرب الشيخ غير مرة عن عزمه البقاء خارج البلاد، لكنه مالبث أن عاد في يناير 1975، بعد وساطات ومناوشات، ليشارك فور عودته في اجتماع سري ضم أيضاً أحمد جابر عفيف ومحمد الرباعي ومحمد الفسيل وآخرين (الأرجح أنهم عسكريون يدينون إليه بالولاء) خصِّص لدراسة الموقف! وطرح في الاجتماع من البعض تدبير انقلاب للإطاحة بالحمدي "لأن قوتنا أكبر من أية قوة أخرى، فأغلب وحدات الجيش بيدنا"، وكان رأي الشيخ سنان "أن نستقيل جميعاً من السلطة"، لكن المجتمعين توافقوا على أن يستمر هو منسحباً من السلطة ويستمر الآخرون في أعمالهم.
لم يترك الحمدي زمام المبادرة في يد المؤتمرين عليه فأقال رئيس الحكومة محسن العيني (يناير 1975) ورئيس المحكمة الخاصة بالمخربين القاضي غالب عبدالله راجح (فبراير) وواصل تحجيم مراكز القوى باسم التصحيح وبناء الدولة المركزية، متخذاً في 27 ابريل 1975 خطوة حاسمة في مسيرة احتكار الدولة لوسائل الإكراه المادي بإقالة محمد ودرهم وعلي أبو لحوم من قيادة اللواء السادس ولواء تعز والاحتياط، وتعيين أحمد فرج وحمود قطينه وعلي عبدالله صالح بدلاً منهم. وفي 29 ابريل يرقي أحمد حسين الغشمي نائباً للقائد العام وعلي صلاح قائداً لقوات المجد، فيخرج الشيخ الأحمر غاضباً إلى خمر، ويرسل إلى "العم سنان" ملحاً على الاسراع في التفاهم لأن الموقف يقتضي " التحديد لا التمطيط(...) والمصارحة لا المصالحة".
<<<
يبقى في الصراع بين دولة المواطنين ودولة الامتيازات (وهو صراع ممتد، وماثل بوجوه ووجاهات وواجهات مموهة في اللحظة الراهنة) مشهد جدير أن يكون موضع التفاتة، فالحمدي خسر يحيى المتوكل أخلص أصدقائه وأقربهم مودة إليه عند احتدام خلافه مع الشيخ الأحمر، ففي إبريل 1975 ضاق المتوكل بمسائل "السياسة السافلة" على حد تعبيره في رسالة إلى الوالد سنان، باح فيها، أيضاً، برغبته في البحث عن مخرج من عمله (كوزير للداخلية). وطبق رواية استمعت إليها من صديق مشترك لهما عايش الساعات الأخيرة السابقة على الإقالة، أصر المتوكل على تلبية مطلب الشيخ الأحمر بإعادة مجلس الشورى برئاسته، بينما وافق الحمدي على إنهاء تعليق مجلس الشورى شريطة أن يعمل برئاسة جديدة. رفض وزير الداخلية الحل الوسط فأقاله رئيس مجلس القيادة، وعينه سفيراً في واشنطن. ومن بين أولئك الذين فقدوا مواقعهم في "عهد التصحيح" تجمل المتوكل بالسماحة والترفع عن الصغائر, وهو أخذ على الحمدي (في حديثه المطول للزميل صادق ناشر) استعجاله إنجاز مشروع دولة المواطنة، وهذا مأخذ ذو وجاهة على أية حال إذا ما قيس بمقولة صادرة من ضفة أخرى تزعم أن الحمدي كان بطيئاً بأكثر مما تحتمل أشواق الناس، وهذا مأخذ قوى اليسار المأخوذة حينها بنماذجها القريبة والبعيدة، والمنغمسة في رومنسيتها حد ادعاء الاصطفاء واحتكار الوطنية بتسمية نفسها ممثلاً شرعياً وحيداً لمطالب الجماهير.
> العدد (12)، 1 يونيو 2005م