كثيرة هي العبر التي تمر على المجتمعات والأشخاص ولا يعتبرون، وكثيرة هي الحوادث والدلالات التي تقرع الأسماع وتهز الأفئدة ولكن الناس في غفلة ساهون، وهناك ما يجري الآن من قوارع ونوازل يتعجب الإنسان لها، ومنها مايلفت الأنظار بل ويدهش القلوب لا يُعتبر منها ولا يقف أمامها كثير من أصحاب الأفهام والقلوب رغم أنها صكت الأسماع، ودهمت الأفئدة ولفتت الأنظار، والعبر التي نقف أمامها هذه الأيام نلمحها في حادثين متلازمين. الأول: حصار غزة، وتكالب الأعداء عليها، والاتفاق على تجويعها وترويعها، والحادث الثاني الذي لازم هذه الجريمة هو: ما حل بالعالم المتجبر من لعنة اقتصادية مذهلة وغير متوقعة لهؤلاء الجبابرة .. شركات أفلست .. ومدخرات تبخرت .. وأرصدة ذابت ولم يعد لها وجود.. وآلاف المليارات ضخت واختفت، ودول بكاملها على حافة الانهيار الاقتصادي التام، والكثير منها أوشك على الإفلاس، والعالم كله في رعب ينتظر المصير المجهول والخراب المطبق، وبيوت المال والبنوك، رفعت الراية السوداء.
وبينما كنا نتابع أخبار أسواق المال العالمية وانهيارها غير المسبوق خطر على بالنا خاطران: الأول: هو عدم وجود مبرر اقتصادي يهز العالم بهذه السرعة وفي هذه الفترة الوجيزة، وحيرة المختصين في إيجاد تفسير لذلك؛ حيث عجز محللو العالم عن فهم حالة الفوضى والذعر التي سادت وتسود الأسواق العالمية بهذه السرعة وهذا الهلع.
الثاني: من حقنا أن نسأل ويسأل معنا أصحاب القلوب المكلومة والنفوس المظلومة، ومن حقنا أن نربط بين توجه الظلم العالمي والتداعي العالمي الفادح الذي وقع على بلدنا في «غزة» وهذا الانهيار العالمي لاقتصاد الظالمين الذين أصروا على منع الطعام عن أهل غزة، وقطعوا الرواتب، ومنعوا الدواء، وضاعفوا الأسعار، وزادوا الغلاء، وأوقفوا صادرات الغاز والبترول، وأرادوا تفليس حتى البقالات، فأفلسهم الله، وأغلقوا المعابر، فأغلقت بورصاتهم وبنوكهم، فأذاقهم الله من نفس الكأس، وهكذا تصب غزة لعنتها على من ظلمها، تمنى «رابين» أن يبتلعها البحر فابتلعته أرضها، وشارون الذي آذى أهلها حلت عليه لعنتها، هو اليوم محنط بين الحياة والموت ليكون لمن خلفه آية، وتآمر عليها جرذان من أصدقاء اليهود، فطردتهم ملعونين مدحورين، وهذه المجتمعات التي تفترس وتظلم وتتمادى في الظلم قد يملي لها الله ثم يأخذها أخذ عزيز مقتدر: $ّضّرّبّ پلَّهٍ مّثّلاْ قّرًيّةْ كّانّتً آمٌنّةْ مٍَطًمّئٌنَّةْ يّأًتٌيهّا رٌزًقٍهّا رّغّدْا مٌَن كٍلٌَ مّكّانُ فّكّفّرّتً بٌأّنًعٍمٌ پلَّهٌ فّأّذّاقّهّا پلَّهٍ لٌبّاسّ پًجٍوعٌ $ّالًخّوًفٌ بٌمّا كّانٍوا يّصًنّعٍونّ>112< (النحل).
كم من شعوب كانت آمنة بنعم الله هانئة فكفرت هذه النعم وتمردت وبغت فأذاقها الله الضنك والذل والحرمان، والله قادر على ذلك ولا راد لقضائه، ولئِن كان هؤلاء يعتمدون في المقام الأول على الدينار والدولار، وينهارون إذا انهارا، فنحن لا نعتمد على هذا أو ذاك، وإنما نتمسك بالإيمان، ونتوكل على الله سبحانه، ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى في تحفيز المسلمين: إن تّكٍونٍوا تّأًلّمٍونّ فّإنَّهٍمً يّأًلّمٍونّ كّّمّا تّأًلّمٍونّ $ّتّرًجٍونّ مٌنّ پلَّهٌ مّا لا يّرًجٍونّ $ّكّانّ پلَّهٍ عّلٌيمْا حّكٌيمْا >104< (النساء)، وهذا من دلالات النصر الأكيد إن شاء الله؛ لأن قوة المسلم قوة روحية وليست مادية فقط. وهذا درس لأعداء الإسلام الذين يحاصرون غزة.
وأما المسلمون الذين يحاصرونها ويمنعون عنها الطعام والدواء ويحكمون إغلاق المعابر حولها، فلهم عبر وعبر ودروس ودروس، وقد تكون أدهى وأمر، ولا يدري المراقب كيف يمر رمضان وغزة تحت الحصار، لا تجد ما تقتات به، والمسلمون يهنؤون بما لذ وطاب؟! وكم يؤلم قلب المسلم ويفتت كبده، خطاب إسماعيل هنية الذي خاطب به الأمة ينتقد تقاعسها في رفع الحصار عن غزة، فقال في وسط الجموع وهتاف الجماهير وأنصار حركة حماس: يا أمة المليار، غزة تعاني الحصار.. يا أمة المليار، إن الحصار لن يحقق فينا أي هدف أو يحدث فينا أي انكسار.
وأكد هنية أن إستراتيجية «حماس» متمثلة في التمسك بالحقوق والثوابت الفلسطينية وعدم التنازل عنها، أو التفريط فيها، وفي مقدمتها «القدس»، وحق العودة، والأسرى.
هذا هو منهاج الأبطال ودستور المجاهدين، ويسبق ذلك كله بشائر النصر، ودلائل الفلاح، وأمتنا بخير، ولكنها تحتاج إلى قيادة قادرة تقود المسيرة وترفع الراية، أمتنا يتحرق شبابها إلى العزة والكرامة، أمتنا مؤيدة بعزة الله وتوفيقه إن سارت على الطريق المستقيم وسارت على خطا الرجال الصالحين.
تلقى الأمور بأهل الرشد ما صلحت
فإن تولوا فبالأشرار تنقاد
كيف الرشاد إذا ما كنت في نفر
لهم عن الرشد أغلال وأقياد
أعطوا غواتهم جهلاً مقادتهم
فكلهم في حبال الغي منقاد
حان الرحيل إلى قوم وإن بعدوا
فيهم صلاح لمرتاد وإرشاد
وتمضي قوافل الصالحين في مهرجانات الطهر والعفاف والرضوان إلى رضاء الله وعونه وتوفيقه مجللة بالفضل والبركات.
صلاح الأرض أحياء وموتى
وزينتها وأنجمها الهداة
هذا.. وستظل غزة لعنة على الظالمين، وبركة على الصالحين، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، ويحق الله الحق ويبطل الباطل قريباً إن شاء الله.>
