المجلس الاستشارى
ونقلت استخبارات المدينة أخبار جيش مكة خبراً بعد خبر , حتى الخبر الأخير عن معسكره , وحينئذٍ عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلساً استشارياً عسكرياً أعلى , تبادل فيه الرأى لاختيار الموقف , وأخبرهم عن رؤيا رآها , قال : إنى قد رأيت والله خيراً , رأيت بقراً يذبح , ورأيت فى ذباب سيفى ثلما , ورأيت أنى أدخلت يدى فى درع حصينة , وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون , وتأول الثلمة فى سيفه برجل يصاب من أهل بيته , وتأول الدرع بالمدينة .
ثم قدم رأيه إلى صحابته أن لا يخرجوا من المدينة , وأن يتحصنوا بها , فإن أقام المشركون بمعسكرهم أقاموا بشر مقام وبغير جدوى , وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون على أفواه الأزفة , والنساء من فوق البيوت , وكان هذا هو الرأى . ووافقه على هذا الرأى عبد الله بن أبى بن سلول _ رأس المنافقين _ وكان قد حضر المجلس بصفته أحد زعماء الخزرج . ويبدو أن موافقته لهذا الرأى لم تكن لأجل أن هذا هو الموقف الصحيح من حيث الوجهة العسكرية , بل ليتمكن من التباعد عن القتال دون أن يعلم بذلك أحد , وشاء الله أن يفتضح هو وأصحابه _ لأول مرة _ أمام المسلمين , وينكشف عنهم الغطاء الذى كان كفرهم ونفاقهم يكمن وراءه , ويتعرف المسلمون فى أحرج ساعتهم على الأفاعى التى كانت تتحرك تحت ملابسهم وأكمامهم .
فقد بادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر , فأشاروا على النبى - صلى الله عليه وسلم - بالخروج , وألحوا عليه فى ذلك , حتى قال قائلهم : يا رسول الله , كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله , فقد ساقه إلينا وقرب المسير , اخرج إلى أعدائنا , لا يرون أن جَبُنَّا عنهم .
وكان فى مقدمة هؤلاء المتحمسين حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذى كان قد رأى فرند سيفه فى معركة بدر فقد قال النبى - صلى الله عليه وسلم - : والذى أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاماً حتى أجالدهم بسيفى خارج المدينة .
ورفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأيه أمام رأى الأغلبية , واستقر الرأى على الخروج من المدينة واللقاء فى الميدان السافر .
وكان الناس ينتظرون خروجه , وقد قال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير : استكرهتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخروج , فردوا الأمر إليه , فندموا جميعاً على ما صنعوا , فلما خرج قالوا له : يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت , إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما ينبغى لنبى إذا لبس لامته _ وهى الدرع _ أن يضعها , حتى يحكم الله بينه وبين عدوه .
تحكيم الكفار للنبي
ولخمس وثلاثين سنة من مولده - صلى الله عليه وسلم - قامت قريش ببناء الكعبة , وذلك لأن الكعبة كانت رضماً فوق القامة , ارتفاعها تسعة أزرع من عهد إسماعيل , ولم يكن لها سقف , فسرق نفر من اللصوص كنزها الذى كان فى جوفها , وكانت مع ذلك قد تعرضت باعتبارها أثراً قديماً للعوادى التى أدهت بنيانها , وصدعت جدرانها , وقبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - بخمس سنين جرف مكة سيل عرم , انحدر إلى البيت الحرام , فأوشكت الكعبة منه على الانهيار , فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حرصاً على مكانتها واتفقوا على أن لا يدخلوا فى بنائها إلا طيباً , فلا يدخلوا فيها مهر بغى , ولا بيع ربا , ولا مظلمة أحد من الناس , وكانوا يهابون هدمها , فابتدأ بها الوليد بن المغيرة المخزومى , وتبعه الناس لما رأوا أنه لم يصبه شئ , ولم يزالوا فى الهدم حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم , ثم أرادوا الأخذ فى البناء , فجزأوا الكعبة , وخصصوا لكل قبيلة جزءاً منها , فجمعت كل قبيلة حجارة على حدة , وأخذوا يبنونها , وتولى البناء بنَّاء رومى اسمه باقوم , ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه فى مكانه , واستمر النزاع أربع ليال أو خمساً , واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس فى أرض الحرم , إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومى عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد فارتضوه , وشاء الله أن يكون ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فلما رأوه هتفوا : هذا الأمين , رضيناه , هذا محمد . فلما انتهى إليهم , وأخبروه الخبر طلب رداء , فوضع الحجر وسطه , وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعاً بأطراف الرداء , وأمرهم أن يرفعوه , حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده , فوضعه فى مكانه , وهذا حل حصيف رضى به القوم .
منقووووووووووووووووووووووووووول