يحيى السادة
إذا ما أتيح لأحد في شمال الوطن زيارة مناطق في الجنوب بعد أن كان من
المستحيل على أي كان الاقتراب من خط تماس التشطير قبل مايو 90م، فإنه يصعب
على هذا الزائر بالتأكيد ان يتخيل اليوم الذي يجد فيه نفسه في مواجهة
الحواجز والمصدات الأمنية التي تحول ما بينه وهذه الأرض التي ما من احد
طاف بها الا أحبها وعشقها بعد أن ظل يحلم بمعانقتها ولثم ترابها طيلة عقود
من عمره... أمر ربما لا يقوى على احتماله احد لاسيما إذا ما عرفنا بأن
عدن واحدة من هذه الأماكن التي يضع المرء يده على قلبه خوفاً من اليوم
الذي يصعب فيه الاقتراب منها ومن مفاتنها الطبيعية والتي يجمع الكل على
تفردها بالكثير من مفردات الجمال وبالكثير من الخصوصيات التي لا تحظى بها
كثير من مدن الدنيا، والتي من أهمها ازدواجية سحرها وجمالها بين سحر الأرض
وجمال الروح التي يتحلى بها قاطنوها فضلاً عن تميزها وتفردها عن غيرها من
المدن في موقعها الفريد، وفي صهاريجها وفي مناراتها وفي قلاعها وفي
سواحلها وفي مساجدها وفي جبالها، ولون مياه شطآنها وحتى في خلطة واريج
بخورها , مدينة وجدت ليلتقي فيها وينعم بدفء حضنها كل أبناء هذا الوطن
وربما كل بني البشر لما لها من سحر، ولما لأهلها من صفاء ذهن ونقاوة روح
وطيب أنفاس، عدن التي رضعنا اسمها مع حليب أمهاتنا وتخيلنا شوارعها
وحاراتها وضواحيها في طفولتنا وفي مراهقتنا وعلى امتداد سنوات عمرنا،
والتي وجدناها في يوم التحامنا أجمل مما تصورناها وأبدع مما رسم ومر على
ذاكراتنا، صعب علينا أن نفارقها أو نفارق أهلها، مهما تجرع كلانا العلقم
في الشمال وفي الجنوب على السواء؛ جراء ما حل بالجميع من فوضى ومن فساد
ربما لم يعهده الوطن على مر تاريخه الحديث ، كما يصعب علينا بالمقابل
مفارقة مناطق أخرى كالضالع ذات الجبال الشماء والتضاريس الوعرة التي تعكس
صلابة الإنسان وجسارته على مدى التأريخ، ولحج ذات المواقع الأثرية
والمزارات المتعددة والحمامات الطبيعية موطن "القمندان" ومعقل الفل
والكاذي والريحان، وأبين أرض المروج الخضر وشبوة الأرض الواعدة بالخير،
وحضرموت أرض الحضارة والتراث .. أرض النخيل الباسق وغيل با وزير ووادي
دوعن المسكون بالنحل وبعسله الذي فيه شفاء للناس ، والمهرة موطن المحبة
والإخاء وبوابة الوطن الشرقية نحو عُمان، جميع هذه المناطق تسكن قلوبنا
وتجري في دمائنا ودماء كل من زارها أو افترش تربتها والتحف سماءها،
فبعيداً عن السياسة التي تتناقض مع عشقنا لكل شبر من مساحة هذا الوطن يكمن
تشبثنا باستمرار لحمة الأرض باعتبارها عاملاً أكسب الجميع هذا التنوع في
الجمال وفي المناخ وفي تمدد الوطن وتنوع خيراته، ففي السياسة نتفق مع
الاخوة في الجنوب على جوهر المشكلة وبالذات مع من لحق بهم الضرر من حرب
94م، وما أعقبها من تصرفات وممارسات لا مسئولة والتي لم تتوقف عند مناطق
الجنوب فحسب بل امتدت لا حقاً لتشمل مختلف جغرافية الوطن والمتمثلة
باستشراء الفساد والظلم والمحسوبية والمحاباة والعبث والفوضى وعدم
المساواة في العدل وفي المواطنة وباختزال الوطن في العشيرة إلى آخر هذه
المعضلات التي طفت على سطح حياتنا اليومية خلال فترة ربما لا تتعدى العقد
ونصف العقد من الزمن ، لكننا نختلف على الآلية التي يمكن بواسطتها معالجة
هذه المعضلات وهذه الاختلالات.... فالبعض يرى أن الحل يكمن في فك الارتباط
وهذا ما لا نحبذه على الاطلاق فيما يرى آخر أن الحل يكمن بالتشبث بكل شبر
من الأرض التي التحمت في مايو 90م، مقابل مقارعة الظلم والفوضى والوقوف في
وجه غول الفساد.
خياران ربما أقلهما خطورة وأقلهما كلفة وأقلهما تضحية واقلهما مأساة هو
الخيار الأخير، طالما يحفظ الأرض والإنسان من تمزقهما فضلاً عن إخراج
الوطن من نفقه المظلم الواقع فيه حالياً وإلحاقه بدلاً من ذلك بدائرة
الضوء الواقعة فيها كثير من الشعوب غير المحبطة، سواء القريبة منا أو
البعيدة على السواء.