ليست الرومانسية طبعة واحدة من عدة نسخ ولكنها طبعات متعدد، تعدد الشعراء، فرومانسية الحضراني، تختلف عن رومانسية الجرادة ورومانسية لطفي غير رومانسية محمد محمود الزبيري وهكذا فما هي رومانسية الزبيري..؟ هل تكمن في ذت الشاعر كحالة نفسية..؟ أم هي مثال خارجي وفد على الشاعر ثم تمثلها فتجلت في ذات الشاعر....وقبل الحديث عن هذا وذاك يجب الإشارة إلى أن ثمة علاقة حميمة بين الصوفية والرومانسية، وهي الانطلاق من الذات، ذات الشاعر الموهوب، وليس من المثال المكسوب، كما نلاحظ ذلك عند الكلاسيكيين، ولا من الواقع كما هو الحال مع شعراء الواقعية.. إنها تنطلق من واقع الذات، أو من الذات الشاعرية وقد امتصت الواقع حتى اندمج فيها وصار جزءاً منها، وهذا الواقع إما أن يتصوره الشاعر تصوراً واعياً، فتنبني على تصوره ذاك أشعاره، وإما أن يكون هو الشاعر ذاته، فالرومانسية ذات، أو هي وعي ذاتي وعليه يقيم الشاعر بنيانه المعرفي حول الوجود بصرف النظر عما إذا كان هذا البنيان المعرفي واقعياً أو خيالياً.. وأمارته، أي أمارة الشاعر الرومانسي - هي أنه يؤنسن الأشياء ويجعل لها كيانات مماثلة له؟ أو مستحبة إليه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد الرومانسي يقوم بعملية معاكسة أي أنه يشيىء، الإنسان فقصيدة على محمود طه «قيثارتي» هي كيان مادي وبشري، أما طلاسم إيليا أبو ماضي فهي على العموم كيانات مادية وبشرية يحاورها الشاعر في أشكال مختلفة وكذلك رومانسية لطفي ورومانسية علي محمد لقمان وصالح الحامد وجرادة والحضراني وغيرهم.
أما رومانسية الزبيري، فهي تنطلق من ذات متحدة بذات أخرى، هي أشبه بالموضوع، انها الصوفية وقد انسلخت عن عباءتها العربية والإسلامية وراحت تبحث عن وجود خاص بها لتتحد به، فإذا كانت الصوفية مع ابن عربي هي الإنسان الكامل وقد اتحد بالوجود أو بالذات الكلية، فإن الرومانسية مع الزبيري هي اتحاد الصوفي بالرومانسي كوجود مغاير لوجوده، إنه الآخر الذي اقتحم وكر الشاعر اقتحاماً.
وعلى ذلك يمكن القول إن رومانسية الزبيري هي وعي صوفي تمازج بالوعي الرومانسي واتحد به، وشكل كلاهما وعياً جمالياً في ذات الشاعر محمد محمود الزبيري أثناء احتكاكه بثقافة علي محمد لقمان وثقافة لطفي جعفر أمان في عدن.
ومع تواشج الذات الصوفية بالذات الرومانسية في وعي الزبيري نجد أن شعر الزبيري وبالذات شعره الذي يسمى رومانسيا، ينطلق من الشعر العربي الحميني أو الشعر الغزلي بما في ذلك الفصيح، فهو الأرضية الشعرية التي يقف عليها شعر الزبيري كما نلاحظها في قصائده «حنين الطائر» و«غربة» و«إلى وطني»، وأخيراً قصيدته «البلبل» وكلها قصائد قالها في عدن كما يقول الدكتور رياض القرشي في كتابه «شعر الزبيري».
فالبلبل وحدة ذاتية هي الشاعر الصوفي، أو الصوفي المناضل، أو الذات المنسلخة عن الشاعر، ولهذه الذات عدة صفات، أبرزها الحب، والعجز عن ممارسة ذلك الحب، أو قل إن هذا الرومانسي ماهو إلا طير ابتلاه الله بالحب فانقلب الحب إلى مأساة تجرع ويلاتها الشاعر كما يقول المقطع الأول:
أثرت الصبابة يابلبل
كأنك خالقها الأول
غناؤك يملأ مجرى دمي
ويفعل في القلب مايفعل
سكبت الحياة إلى مهجتي
شجياً وإن كنت لاتعقل
غزتك إلى الوكر مأساته
ومسك من خطبه المعضل
نكبت بما نكب العاشقون
وحملت في الحب ماحملوا
أتوه فقيراً وفي صدره
فؤاد وفي فمه مقول
ومنذ بداية المطلع نجد الخطاب الشعري يتجه صوب البلبل، أو الطير بما هو كيان مادي خارجي مستقل عن وعي الشاعر، هذا البلبل يقبع في الدوحة وحيداً يرتل أنغامه نغماً.. نغماً، وأنغامه ليس لها من مجال تؤثر عليه سوى الشاعر.. وعلى الشاعر وفيه، كذات واعية تتجلى تأثيرات هذا البلبل، وهو ليس مثالاً للشاعر.. ولا شاعراً يتماثل مع الذات كما عند شعراء الحميني.... بل هو وحدة مستقلة، أو ذات وحدة لها عدة صفات... ولكن هذه الذات، وهي ذات عبقرية، وقع عليها الغزو فقد غزاها الحب، وجعلها أشبه بالمرجل.. أو ذات خفيفة أستخفها الطرب وأثقلها باللوعة والحنين إلى إلفها القريب منها البعيد عنها في آن، وهذه الذات تتسم بصفات إنسانية تراجيدية، فلم تكن تعي ما الحب...؟ وما أن عرفت الحب، وجدته معضلة، فاعتراها من عضلته الضيق وتعذبت بنيران الفراق.. أو من التشرد والحصار، وأصبحت تعاني من مأساة إنسانية هي إلى هذا الحد أو ذاك صورة من أحوال الشاعر نفسه.
فنكبة الأحرار.. لاتختلف عن نكبة الزبيري ولا عن نكبة البلبل.. والإلف الذي فارقه الزبيري هو أزواج متآلفة، قاست فراق الحياة وتحملت مآسي من فارقت.. لكن مأساة البلبل في فراق إلفه، ليست سوى مأساة الزبيري في فراق إلفه المودع في صنعاء ولايعتد بالتاريخ المذيل في أسفل القصيدة، فالبلبل قصيدة مفعمة باللوعة والحنين والحب إلى إلف يقبع في دوحة أخرى.. لايقوى البلبل على ارتيادها، إنها صنعاء المفارقة للشاعر أو زوجته أو كلاهما.. لذا فإن البلبل بصفته الغرامية هو الشاعر ذاته، أما البلبل بصفاته المأسوية، ومأساته تتحد بالغزو وبالنكبة.. فهي اليمن وهي حركة الأحرار أو هو ذاته أو هي كل ذلك.
لكن الملاحظ هو أن الشاعر الصوفي، خلط بين الموضوع والذات أو قل اتحدث الذات الصوفية بالذات الرومانسية.. ولكن بعد أن أزاح الشاعر وعيه الصوفي بالوعي الرومانسي وتستبدل عقله العربي بشقيه، المعتزلي والأشعري، بالعقل الديكارتي كما نلاحظ ذلك في قصيدته الرائية:
شمس طواها بلبل القبر مقدور
فالنور مفتقد والصبح مقبور
هل للتريِّب ومض من نباهته..؟
فنقتنيه، وهل للصخر تفكير..؟
لقد طوى الدهر شمسه المفعمة بالتريب وبالظنون، وكفنها بكفن حاكته المقادير، هذا الذي دفنه الزبيري هو جوهر الإسلام وعقله، ولكن بعد أن استبدله بأعراض الفكر الديكارتي، الذي تبدى له بهيئة بلبل عبقري يقبع في كوخ لايدخله أحد غير الشمس.. إنه طير فقير ولكنه طير نفيس كما تصفه الأبيات في آخر القصيدة:
تغني وترقص في دوحة
كأن أزاهيرها محفل
ترحب بالشمس قبل الشروق
كأن حماك لها موثل
توهمتها وقفت نفسها
لوكرك ضيفاً به تنزل
كأنك حاتم في خدره
يحيي الضيوف ويستقبل
أتوه فقيرا وفي صدره
فؤاد وفي فمه مقول
إنه فكر الاستعمار الحديث، مدرعاً بمآسي الحب ومآسي تلج إلى كل وكر وإلي كل حي، وإلى كل دارِ وخدرٍ، وهنا نجد الشاعر يعالج داءه بدائه فكما شكك العقل الديكارتي بتراث الشاعر الاسلامي، يشكك الوعي الرومانسي بالعقل الديكارتي نفسه.
ليست الرومانسية طبعة واحدة من عدة نسخ ولكنها طبعات متعدد، تعدد الشعراء، فرومانسية الحضراني، تختلف عن رومانسية الجرادة ورومانسية لطفي غير رومانسية محمد محمود الزبيري وهكذا فما هي رومانسية الزبيري..؟ هل تكمن في ذت الشاعر كحالة نفسية..؟ أم هي مثال خارجي وفد على الشاعر ثم تمثلها فتجلت في ذات الشاعر....؟