لا ينفك طقس الغضب والحماسة يأخذ بوجدان اليمنيين. وهو يفيض عما هو عليه عند بقية الشعوب العربية، ولا سيما لجهة درجة الانصياع لطبول اللاعقل وتلبس العصبيات، وهو أمر له تأثيرات سلبية في الصغار. ذلك أن تحريك المشاعر العمياء، بحسب المربي نادر عبدالحميد، «يكرس ثقافة الإتباع لدى الناشئة، وبالتالي إدامة «هزيمة العرب» والإضرار بقضاياهم وفي مقدمها قضية فلسطين.
ويرى عبدالحميد أن «التعليم القائم على التلقين والخطابية لا يمكن أن ينمّي قيم العقلانية في وعي الأجيال الجديدة، وقد يؤدي ذلك إلى استمرار ظاهرة «الهتّيفة»، التي قد تكون وراء الهزائم المتواصلة منذ 1948». ويوضح أن صغاراً وناشئة وشباباً كثيرين «يساقون الى المسيرات والاحتجاجات، ومعظمهم لا يملك فكرة عن طبيعة القضايا التي يخرج من أجلها». ويذكر أن من بين تلامذته من يعتقد ان إسرائيل وغزة تقعان في محافظة صعدة.
وكان الاندفاع العاطفي المحموم الذي فجّره العدوان الإسرائيلي على غزة اجتاح الشارع اليمني بنخبه الثقافية والسياسية. المعوقون خرجوا أيضاً في مسيرة منفردة، وكذلك طلاب الجامعات والمدارس.
ومنذ اليوم الأول للعدوان والمآسي، راح بعض وسائل الإعلام يخلع على الحدث عناوين لافتة من قبيل «المحرقة الثانية»، بينما طفحت الصفحات الثقافية بالقصائد النارية. وفي كل مرة تلتهب فيها الأوضاع الفلسطينية، تهرع المركبات المحملة بمكبرات الصوت تذيع الأناشيد وتدعو إلى المشاركة في المسيرات. بعض الأطفال وجد فيها وسيلة لممارسة الشقاوة واللعب من خلال التعلق والسير بمحاذاتها. وبدت غالبية الذين شاركوا، سواء في التظاهرة المخصصة للرجال أم تلك المخصصة للنساء، لا تعلم بما حصل، حتى أن ثمة من بدا فرحاً بما أعطي له من لافتات، ليس إلاّ.
وتذكر أمل، وهي موظفة، أن صغيرها الحارث (10 سنوات) جلب الشعارات إلى المنزل، وبقي وقتاً طويلاً يرفض خلع القماشة المشدودة على رأسه، التي كتب عليها «كلنا حماس». وباتت عبارة «كلنا فلان» أشبه بكليشيه، تُستخدم في المناسبات والأحداث الكبيرة: «كلنا جار الله» (وهو القيادي الاشتراكي جار الله عمر الذي قُتل برصاص عام 2002)، «كلنا نصر الله» (السيد حسن نصر الله الأمين العام لـ «حزتالله» في لبنان)، إبان حرب تموز (يوليو) 2006.
وتقول أمل: «قلة هم الذين يمكن أن يتساءلوا عن جدوى هذا الهياج، وعن وجود وسيلة ناجعة فعلاً لدعم الفلسطينيين عوض «التبرطاع» (الركض) في الشوارع والميادين». وهي تبدي استغرابها من التماهي في الخطاب، بين العامة والنخب ووسائل الإعلام.
«سئمتُ من المشاركة في هذا النوع من التظاهرات والمسيرات المجانية»، تقول أمل، مشيرة إلى أن هناك أنظمة عربية تجد في مآسي الفلسطينيين سانحة لقياس مستوى الوعي الإتباعي لمواطنيها، وفرصة لجمع التبرعات. ويذكر أنس (10 سنوات) أن حصالات تبرع للأقصى وزّعت في مدرسته.
ويلقي المشهد الفلسطيني المتلفز بظلاله على سلوك الصغار. وتذكر سناء حيدر، وهي معلّمة، أنها رصدت صغيرها أيمن (6 سنوات)، يضع ملعقة طعام كبيرة على كتفه، محاكياً استعراضات المقاتلين من حملة قذائف «آر بي جي».
ويأخذ المربي نادر عبدالحميد على الخطاب الإعلامي والسياسي «تورطه في تعزيز حال الهياج والعصبية»، ومثالها: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً». وهو يعتبر أن قيام مجموعات طالبية في محافظة عمران برشق يهود يمنيين بالحجارة (انظر الإطار)، «من إفرازات تخلف التعليم والتحريض السياسي».
وأقبل مراهقون ومراهقات على شراء «الشال» الفلسطيني، ولا يزال تقمّص صورة الفلسطيني - الضحية يلقى رواجاً. ويقول عبدالحميد: «تصارع الهويات سمة المجتمع التراتبي المتعثر في تحقيق المواطنة المتساوية». وهو يرى في حشود الغضب اللحظي «تعبيرات لا عقلانية للجماعات المقهورة المحرومة من الحرية، فالإنسان المسلوب الحرية» كما يقول، «يبحث عن خلاصه في ما هو جمعي وصاخب. ولكنه لا يلبث] أن يستكين».