ذكريات الطفولة
وافيشووووه ... وافيشوووه ... وافيشوووه
يهزني الشوق لتلك الايام الحلوه بصفائها وجمال ايامها ولياليها لتلك الصحبة الغالية لأيام الشقاوة الطفولية البريئة لايام الفرح والمرح اللامحدود في ربوع تلك القرية الصغيرة قريتي ( البرحات )
ليت الزمان يعود وتعود تلك اللحظات
لاعيد رسم خريطة مستقبلي
كم اشتاق لذلك الزمان المليء بذكريات طفولة بريئة وجميلة
ذكريات الصحبة الغالية بكل قلوب صادقة ومشاعر واحاسيس جميلة
قبل العام 1990 م كان الآباء في قريتي يسافرون الى جده (بضم الهاء كما كنا نسميها) لطلب العمل والقليل منهم يعملون في محافظات اليمن وكانو يتركون أبنائهم في القرية للدارسة وزراعة الأرض فكانت القرية تمتلئ بالأبناء
حينها كنت لا ازال في مادون السابعة من العمر اي انني لم التحق بالمدرسة بصفة رسمية كنت اذهب مع اخوتي بعض الاوقات بدافع الفضول وحبي المفرط للتعلم .
واتذكر انه مع انتهاء الدراسة وتحررنا من الدوام المدرسي والمذاكرة وقراة الكتب في نفس الوقت كانت الارض تشاركنا تحررها من الزرع والمزاريب .
اتذكر .... وقد خففت الشمس وطء حراراتها على الارض واذا انا اسمع اصدقائي الصغار يصرخون بصوات واحدة
وافيشووووه ... وافيشوووه ... وافيشوووه
اقوم متلهفاً البس حذائي الاخضر وانطلق اشاركهم نشوتهم ونشارك الارض تحررها من الزرع والمزاريب ...
انه موسم الحصاد وطي البساط الاخضر المفروش على الارض
كما كنا نفرح في مثل هذه الايام ربما لان المزاريب والزرع كانت تقيد حريتنا فلا نستطيع الجري واللعب والقفز من قطين الى قطين بكل نشوة وسرور نتسابق الى اخر مكان تم طي البساط الاخضر فيه تشاركنا القفز والجري اغنامنا التي هي الأخرى كانت تسر كثيراً . كان دورنا ان نمنع الاغنام من الوصول الى الاماكن التي لا زالت مزروعة ونقل الزرع الذي تم ربه الى مكان واحد في القطين وعد العُقد
في مثل هذه الايام وبعد ان يتم الاجهاز على اخر زراعي في القرية كان موعدنا مع لعبة (القُدا)
وهي لعبة ثنائية حيث كنا نحضر عصا يبلغ طولها حوالي متر واخرى طولها 20 ستنمتر تقريباً ونقوم بطرح حجرة على الأرض يقوم احدنا بضرب العصا الصغيرة بالكبيرة بقوة لكي يوصلها الى ابعد مسافة ممكنة حينها يككون اللاعب الآخر مترقباً العصا الصغيرة الطائرة محاولاً إمساكها قبل ان تسقط على الارض ليحمل صاحبه عشرة جبال وذا لم يستطع يقوم برميها على الحجرة فيتلقفها الاول بالعصا محاولاً ابعادها مسافة كبيرة ايضاً اما اذا لمست الحجرة او يد اللاعب يكون اللاعب الأول قد خسر دوره في مركز قوة .
وحين ينجح في إبعادها يقوم اللاعب الأول بمواصلة أبعاد العصا بضربها رافعاً صوته بهذه الكلمات
الحُب الحبين الثالثة واللعبين الرابعة واللطش
كانت كلمات اللعبة جميلة وحين تنتهي الكلمات (باللطش) يكون دور اللاعب الاول قد انتهى ولم يتبقى له مجال في استغلال العصا والايغال في ضربها وابعادها وليس امامه الا ان يقوم بعد الخطوات التي حصل عليها بالحب والحبين من مكان العصا الى الحجرة
حادي.. ثاني ... ثالُث.. رابُع ... خامُس.. سادُس .. سابع .. ثامن ..تاسع ... عاشر وهنا حصل على جبل وهكذا ... حتى يصل الى الحجرة ...
بعد ايام يكون بقية الأصحاب قد قامو بالتحضير لتجهيز ملاعب الكرة في (كروة الحناية) و (العودرية) و (عقمة واصي) وغيرها من الأماكن حيث يتم دعوة لقلع (الصد) و برح الاحجار في صورة تجسد روح الفريق الواحد والرغبة في لعب الكرة
الان تم تقسيم جميع الحاضرين الى فريقين وبدأ تقاذف الكرة وما ان يتقترب احد من احد هذه الاماكن المخصصة للعب الكرة الا ويسمع :
هنه هنه جابي جابي شوت شوت يييييييه جاوووول
على اطراف الملعب يكون الصغار قد احتشدو في اطراف الملعب للتشجيع :
وامحني حني العصفور ... فرقتنا دائماً منصور
ولكن الكرة لا تلبث حتى تسقط الى القطين الاسفل وللمصادفة فجميع الاماكن التي ذكرت يكون القطين الاسفل مزروعاً بالقات ولا يسمح بالدخول اليه
حين تسقط الكرة يكون من الواجب على الجميع التعامل بذكاء وهوان يضلو في الجري وسط الملعب والصياح
هنه هنه جابي جابي شوت شوت يييييييه جاوووول
لئن توقفهم وانتظارهم لمن تسلل لاحضار الكرة يعطي اشارة واضحة الى اصحاب القات بسقوط الكرة
وفي اسوأ الاحوال اذا وجد بين المشجعين من تم منعه من اللعب سيقوم بالصراخ :
ياي ياي والطبة فلته بين القات ياي ياي والطبة فلته بين القات
الان سيحضر صاحب القات (كما قلت في البداية الاباء كلهم مسافرين) وستمسك بالكرة باليد اليسرى والشريم باليد اليمنى وسيصرخ صاحب الكرة في وجه اللاعب الذي اسقطها :
والله انه عليك والله حقي عليك وسيتوسل اللاعب لصاحب القات فك اسر الكرة واعتاق رقبتها والغاء الحكم بإعدامها كعادتهم اهل القرية رحماء جداً وطيبين سيتم اطلاق الكرة ولكن مع تحذير شديد اللهجة :
اذي المره لك وملج امك والا والله لاقطعه
سيتم استئناف اللعب وسيتم الاتفاق على اللعب بهدوء ويجب ان ينتهي اللعب حين تكون الشمس قد أوشكت على الاختفاء وراء (العودين ) ويكون قد حان وقت العودة الى البيت .
ليس هناك اجمل من تناول وجبة عشاء عصيد وحقين وحلص ثم الاتجاه الى الشربة لاخذ شربة ماء هنيئة هناءة اليوم الذي انتهى ويجب على الجميع الاتجاه الى فراشه قبل إطفاء الفانوس
بالنسبة لي لن انام الى بجانب الجدار ولكن حين يكون مازال في احد أخوتي الكبار طاقة تمكنه من اللعب على أعصابي بعض الوقت اتفاجأ وقد اخذ مكاني ... أحاول إزاحته وحين اعجز اقوم بتصعيد الموقف واستلقي على المشمع متظاهراً بالنوم .. حين تدخل امي تسألني لمه ما ترقدش بفرشك .. سأرفع الشكوى اليها ...لتصدر امراً قاطعاً قم من مكانه ... وهنا ستنتهي المشكلة وسأنام مبكراً كعادة اهل القرية جميعاً .
وفي الصباح اقوم مبكراً لتنادي امي : هي معي نسني الغنم .. وبالطبع اذهب معها ... هيووووه هيووه .. وداعة الله والودع وداعة الله يوميه .
حين اعود ستكافئني امي بحبة خبز محمرة بالزيت وليس من عادة الامهات تحمير الخبز بالزيت لئن الزيت غالي .
جلست لوحدي اتذكر واعيد الهم بمآساتي
وهتاف الماضي يتنكر يجتاح جميع خيالاتي
طفل بالماضي اتصور قد عانق حضنك مولاتي
بعد تناول وجبة الصبوح نتجمع في مكان واحد وسوف نتفقد بعضنا فيجب ان يكون الجميع هنا فنحن قد اشتقنا للعب سوياً وليس من الطبيعي التغيب
آه كم كنا طيبين جداً وبريئين جداً ومساكين جداً
.. ربما يكون في مثل هذه الايام من عادتنا ان نلعب لعبة السيارات فنقوم بقطع الجلن الفارغ او علبة الفلت ونعمل لها اطارات من بقايا الاحذية ونربطها بسلك طويل في المقدمة ثم نقوم بسحبها في الطريق ... البعض منا يحب التفاخر والتميز على الجميع لذا فهو يقوم بإضافة بعض الاشياء الجمالية للسيارة او سيقوم بتدبيل العجلات .
حين نمل من هذه اللعبة يكون بعض الاصحاب قد تجمعو في حلقة كبيرة واخذ احدهم كرة صغير في يده واخذ يددور عليهم .... والثعلب فات فات وبذيله سبع لفات وحين يقذف الكرة على احدهم يكون عليه ان يقوم مسرعاً ليقوم برمي باعادة رمي الكرة على ليثبت انه ليس ثعلب . او سيقوم بتكرار نفس الدور الذي قام به الاول .
كم كانت تلك الايام ممتعه وسعيده وحلوه كان كل تفكيرنا كيف نلعب كيف نستمتع باللعب مع بعضنا الى اقصى ما يمكن.
كل منا عاش ذكريات الطفولة بحلوها ومرها . ان ايام الطفولة تمثل لنا البراءة والسذاجة في نفس الوقت والقلب الذي لايعرف المراوغة او النكد كان للكبار مشاغلهم التي لا تعنينا البته . فنحن لنا عالمنا الخاص وايامنا التي سنتذكرها وسنقول اه والله زمان
وفي غمرة انشغالنا باللعب وحين نعود الى البيوت هناك حديث باقي على العيد عشرة ايام .. اذاً نحن في بداية ذي الحجة هذا موسم عودة الاباء .. ياالله ... كم يكون الابناء في شوق الى ابائهم خاصة وهم في غياب عنهم منذ العيد الماضي . ... وفي الصباح سوف يتم تجريب بدلة العيد وسوف تتطاير قراطيس الشكلت الملونة في الهواء ... وسيقول الاصدقاء فلان ابوه روح اليوم لن يلعب .. تدلع ابوك روح .. ابي شروح بكرة .
ها قد عاد جميع الاباء انها فرصة لتجمع الاطفال وزيارتهم لجميع بيوت القرية في ليلة العيد وهم يرفعون اصواتهم العذبة حين يتم ردهم من احدى البيوت بدون جعالة العيد (كبريته راعية البيت ميته)
ومن سيتجرأ على ردهم !!
في الفجر سوف نذهب مبكرين لصلاة العيد وسنشتري الكثير من الطماش وسوف نحتشد لنضرب المرافع ونقوم بالبرع حتى الظهر .. حين تكون وجبة الغداء جاهزة وبعد الغداء سيتكرم الاب بإعطاء اولاده ثمن حبة بيبسي اصفر .. انهم لم يشربو البيبسي منذ العيد الماضي ... وسنجتمع ثانية للبرع حتى الليل .
اه ... كان للعيد نكهة مميزة ومذاق خآص وفريد أضواء اتارك الجاز تنير البيوت وتسابيح المسجد توقظنا فجراً والضحكات المنورة تعلو وجوه الأطفال البريئة والملابس المزهرة الملونة تزخرف الطرقات
وحين ينقضي العيد سيكون قد انقضى شهر ذي الحجة وستكون الارض على موعد مع المطر وحين نرى الغيوم المتراكمة نقوم بالمشي في الطريق : وا سلع سلعوه واذا المطر ينهمر من السماء وحين يأتي االصباح نسمع الكبار يقولون (مبكر) اذاً هو موسم الزراعة في الصباح سيأتي جدي وجدتي يحملون النبال والمضمد وعلبة الرنج التي فيها الذري .. اكون مسروراً جداً حين اتبع جدي وهو يحرث الارض ... ما اجمل رائحة الارض .
وفي المساء ينصت الجميع انه صوت اذاعة المدرسة .. على جميع التلاميذ الحضور يوم غداً صباحاً للتسجيل واستلام الكتب
في هذه السنة سوف التحق بالمدرسة .. اذاً متى سيأتي الصباح .
في الصباح نستيقظ مبكرين على اصوات الديكة ونقوم بارتداء ملابسنا ثم نلتف اما الصحن لنلتهم قطعات الخبز ساخنة وطازجة وحين نصل الى المدرسة في الساعة السابعة نستغل الوقت في الركض واللعب والمزاح في حوش المدرسة ..
نشاغب نزعج ونضحك لكن قلبنا عصفور
نسامح غلطة الثاني لجل خاطر برائتنا
ونبدأ التسجيل ونستلم الكتب ياالله انها فرحة لا تعادلها فرحة كم هي جميلة هذه الكتب وملونة ... ثم نبدأ بالدخول الى الفصول ... يقولون انه جاء استاد مصري هكذا نتحدث مع بعضنا .. وفعلاً يدخل احدهم علينا ليعرف عن نفسه الاستاد ممدوح من جمهورية مصر العربية
ما كان اروعك يا استاذ ممدوح كنت تلميذك المميز كان تشجيعك لي سبب حبي للمدرسة وكانت امي رحمها الله تقول لي انت الاول وفي ايام الاختبار ... مرضت للاسف .. اه كم كنت اتمنى ان استلم شهادة مثل الاخرين لأرفعها بكلتا يداي على رأسي وان راجع الى البيت ليراها كل الناس .. مثلما يفعل كل الاطفال .. ذهبت الى المدرسة يوم استلام الشهادات رأني الاستاذ ممدوح وابتسم وهو يقول لي : انت الاول مبروك . واستلمت الشهادة
وعدت الى البيت اطير من الفرح .. وبعدها سمعت
وافيشووووه ... وافيشوووه ... وافيشوووه
فأرجعيني إلى أسـوارِ مدرسـتي
وأرجعيني الحبرَ والطبشورَ والكتبا
تلكَ الفصول كم كنزٍ طمرتُ بها
وكم تركتُ عليها ذكرياتِ صـبا
وكم رسمتُ على جدرانِها صـوراً
وكم كسرتُ على أدراجـها لُعبا
20/6/2011م البرحات
