الحياة " عبارة عن نسيج درامي يصوغه المجتمع بعفوية تارة وبتكلف سمج تارة أخرى ، وعبّر عنها البعض بأنها " مسرحية عفوية " كل يبحث فيها عن مكان يتواءم مع شخصيته ، أو مكانته الاجتماعية بين الناس. من السهل جداً أن تثير أحاسيس ومشاعر الناس ، وعواطفهم الجياشة ، وأن تنزل دموعهم ، بقصة تراجيدية ، أو حركة إعاقة جسمانية ، أو التظاهر بأشكال البؤس والفاقه ؛ فالناس بطبعهم عاطفيون ، بعكس الضحك فهو من الصعب جداً أن يتفاعل الناس معه ، وكم رأينا من الأفلام التي صُنفت على أنها فكاهية ومسرحيات هزلية قام بها بعض المهرجين المتكلفين ، ولكنها كانت أقرب إلى الاشمئزاز من الضحك. فالضحك لا يقوم إلا على العفوية بالمفارقات السلوكية أو الشكلية ، أو اللاإرادية، والحركية للكائنات بشكل عام ، فقد يضحكنا الحيوان أكثر من الإنسان ، وما ذاك إلا من عفوية ذلك الكائن وبساطته.أظن أن المجتمع الذي لا يضحك مجتمع مريض ، غير متكيف ، وغير متسامح. لذلك أنشأت مدارس للضحك في شرق أسيا وأوروبا ، لتخفيف التوتر ولعلاج الكثير من الأمراض النفسية والجسمانية . يكفي أن الشخص الذي لا يضحك لا يرغب في مجالسته أو مصاحبته ، أو حتى مساعدته أحد .اضحكوا يضحك لكم العالم
يرصد الكاتب الفرنسي " هنري برجسون " والحاصل على جائزة نوبل في كتابه الجميل " الضحك " على أن الضحك يثيره الهزل بشكل عام ، سواء هزل الأشكال ، أو الحركات، أو الكلمات ، أو الشخصيات ، وأن لا هزل إلا في الإنسان ، بل الهزل هو الإنسان على حد تعبيره. كما حاول وضع منهج يقوم على تحديد وسائل صنع الهزل. يقول في صفحة 11 من الكتاب والذي قام بترجمته إلى العربية علي مقلد:
يبدو أن الهزل لا يمكن أن يحدث هزة إلا إذا وقع على سطح نفس هادئة جداً ، متماسكة جداً. إن اللامبالاة هي بيئة الهزل الطبيعية ، والضحك ليس له عدواً أكبر من الانفعال.إن من الدعائم التي ارتكزت عليها فلسفة " نيتشه " هي الضحك ! وقد عدها بأنها ضرورية لأنها حركة دائمة وتنقل لعقل الفيلسوف ، ورغم أنها نقيض العقل والمنطق وخلاف المناهج العلمية إلا أنه أصر على أن يكون الضحك أحد تعاليمه وعنصر تحدٍ على خلاف الفلاسفة الذين سبقوه ممن يدّعون الإمساك بالحقيقة ، فحاول أن يهدم أفكارهم وأقاويلهم بهذه الفلسفة التي قد تكون ظاهرها ضحك وباطنها مغزى عميق ، وحين انتهى من كتابه " زرادشت " أرسله إلى مالفيدا فون
وقال له :لقد وضعت " كتاباً " وبكل جدية أقول إنه على غاية من الجد كما لم يسبق لكتاب آخر أن يكون وإن استوعب الضحك
" الضحك " حالة وجدانية انفعالية ، وملكة إنسانية يمتاز بها الإنسان وحده كما يقول " أرسطو " عن باقي الكائنات، بخلاف العلم الحديث الذي رصد حالات الضحك عند " الشمبانزي " وغيره. كما أن الضحك يكشف عن الأبعاد الشخصية والقيم الأخلاقية للفرد والجماعة بحسب ردات الفعل تجاه المواقف . و يتوقف الضحك على عدة عوامل منها البعد الجسماني ، والنفسي ، والبعد الاجتماعي ، والأخلاقي ، ولكل من هذه الأبعاد تأثير إما بالسلب أو الإيجاب !
فتأثيره مثلاً على البعد الجسماني للإنسان فهو يساعد على تدفق وجريان الدم ، والتوسع في الأوردة ، ويساعد على تحريك عضلات البطن والوجه ، والجهاز التنفسي و طرد أكبر كمية من ثاني أكسيد الكربون من الرئة. كما أنه يقوي عضلات القلب ويحميه من الكولسترول، ويزيد من الهرمونات الحميدة والايجابية ، ويقلل من الهرمونات السلبية والتي تزيد في ضغط الخلايا العصبية للإنسان، وتزيد في توتره " كالاردينالين " الذي قد يسبب مرض السكر! لذلك فهو يقوي
المناعة لجسم الإنسان
أما من الناحية النفسية فالإنسان بطبعه ليس عدوانياً ، ولكن هناك عوامل قد تحوله إلى ذئب على أخيه الإنسان . لذلك كان الضحك هبة من الله تعالى لحل كثير من المواقف المعقدة ، وفتح طرائق مسدودة ، وفتح شهية مغلقة ، ومن المعلوم أنه كلما تحسنت الحالة النفسية للإنسان كلما انعكس إيجاباً على صحته البدنية، وسلامته العقلية ، والنفسية ، وفتح رؤى جديدة للحياة . ويقول العلماء أن الضحك يزيد من فرز مادة " الإندروفين " والتي بدورها تعطي النشوة والفرح وهذا بدوره يجعل الإنسان في أحسن حالاته المزاجية ، وكلما تحسنت حالته المزاجية استطاع أن يبدع ، أن يعطي ، أن يفكر برحابة أفق ، أن يعمل ويطور ويتقن عمله، وأن يتفاءل على الدوام ، ويكون سعيداً ، بعيداً عن الحزن والقلق الذي قد ينتهي بالإنسان إلى الانتحار.
أما من الناحية الاجتماعية فهو يساعد على بقاء وديمومة الإنسان على وجه الأرض ، والتعامل بود بين أفراد المجتمع. وكلما زاد الضحك بين أفراد المجتمع زاد انفتاحه على العالم ، وكان إيجابيا وفاعلا ، بعكس المجتمعات المتجهمة فهي غالباً ما تكون منغلقة على ذاتها ، متقوقعة في نهاية دول العالم لا تألف ولا تؤلف ، فهي محل تنفير . لذلك تجد نسبة الانتحار والجرائم مرتفعة ، ونسبة السائحين منخفضة ؛ لأنها تعيش في كبت ، والكبت يولد الانفجار لا محالة.
وأما من الناحية الأخلاقية فالضحك لم يكن مذمة إلا عند المتشائمين ، وأصحاب النظرة السوداوية ، والمكرسين لبغض الحياة ، وأعداء السعادة والفرح ، ولكن حين يطغى الضحك عن حده يكون ممجوجاً ، ولا يكون صاحبه محل تقدير . كما أنه قد يوصل الإنسان إلى حالة هستيرية ، أو نوبة قلبية ، أو تشنج في الجهاز التنفسي خصوصا عند الذين يعانون من الربو وغيره من المشاكل الصحية.
أخيرا... أورد لكم هذه العبارة، قال الدكتور المصري يوسف زيدان لا ينبغي أن نخجل من أمر فُرِضَ علينا ما دمنا لم نقترفه 
